(وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسّكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضرعنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون)
حديث الجمعة :
مما يلزم الإنسان المؤمن الاعتقاد بتنزيه الله عز وجل ذاتا وصفات وأفعالا . ومن تنزيهه سبحانه وتعالى أنه لم يخلق شيئا حيا كان أم جامدا عبثا مصداقا لقوله عز من قائل : (( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا )) ، وقوله : (( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون )) ، وقولهم : (( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون )) ، بهذه النصوص القرآنية وغيرها نزّه الله تعالى أفعاله عن الباطل والعبث واللعب واللهو ، وأثبت لها الحق، وهو ما صحّ، وصدق ، ودقّ ، واتقن ،ووجد لغاية معلومة عنده سبحانه وتعالى.
وعند التدبر والتأمل العميقين في أفعاله سبحانه وتعالى ،نجدها كلها عبارة عن نعم ، لما فيها من خير، وصلاح، وراحة، ورغد، وغضارة، ورفاهة، ونفع وفائدة، وربح ، وسعادة .... إلى غير ذلك مما تتعلق به النفس البشرية مما تحبه وتتمناه سواء كان ذلك ماديا أم كان معنويا.
وأكبر نعمة على الإطلاق هي نعمة الإيجاد والخلق ، لأن باقي النعم التي تتعلق بها إنما هي ناشئة عنها . ولقد نشأت عن نعمة خلق الله عز وجل للمخلوقات على اختلاف أنواع نعم لا يحصيها عد ولا يؤديها شكر، مصداقا لقوله تعالى : (( وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها )) ، وهي التي أحاط بها الله عز وجل الإنسان المخلوق الذي كرمه ،واستخلفه في الأرض ليختبره في هذه الحياة الدنيا ثم يجازيه عن سعيه فيها بعد موت ونشور يكون في حياة أخرى . وهذه النعم الكثيرة تتداخل وتتشابك فيما بينها بشكل مذهل للعقل حتى أنها تبدو كأنها واحدة على كثرتها الكاثرة ، لهذا سماها الله عز وجل في محكم التنزيل " نعمة " بصيغة المفرد . والعجز عن عّدها في الإنسان مصدره الجهل بها أو الغفلة عنها ،علما بأنه لا تمر به لحظة من لحظات عمره إلا وبه نعم شتى من خالقه سبحانه وتعالى لا يستطيع عدّها ،ومن ثم لا يبالي بها و لا يؤدي شكرها وهو ينعم بها ، والأدهى من ذلك أنه قد يجحدها فيقيم الله تعالى بها الحجة على كفرانها وجحودها . وغالبا ما لا يعيرها ما تستحق من اهتمام ، ولا يكلف نفسه معرفة قيمتها وقدرها ، بل قد يبلغ به الأمر حد احتقارها واعتبار بلا قيمة تذكر ، ولا فائدة ترجى ، ولا حاجة إليها ... متناسيا أن أفعال الخالق سبحانه وتعالى منزهة عن اللهو واللعب والباطل والعبث . ورب مخلوق ضئيل جدا قد لا يرى بالعين المجردة، يظنه الإنسان منعدم الوجود ، مع أنه موجود ، أو منعدم الخطر وهو خطير ، أو منعدم الفائدة وهو مفيد ...
والأخطر من ذلك أن تبلغ الجهالة بالإنسان حد الاعتقاد بأن ما به من نعم مادية أو معنوية هي من فعله أو من فعل شركاء لله تعالى مع أنه جل جلاله قد نبه إلى أنه هو الخالق الصانع الموجد الجاعل المسخر المنعم ... ومن تنبيهه الإنسان إلى ذلك قوله تعالى : (( وما بكم من نعمة فمن الله )) . وقد ورد هذا الخطاب الإلهي في معرض امتنان الله عز وجل بما أنعم به على بني آدم ، وهو خطاب موجه إلى الناس عموما . والباء فيقوله تعالى (( بكم )) للملابسة كما يقول أهل اللغة ، وهي تعني ما لابسكم أو ما عندكم من نعمة مهما كانت، فهي من عند الله عز وجل لا من عند أنفسكم أو غيره من الشركاء .
ولا ينتبه الناس إلى نعم المنعم سبحانه وتعالى إلا إذا زالت ، وعزّت ، وصعب الحصول عليها أو تعذر ، لهذا أعقب سبحانه إخباره بأن كل النعم من عنده ، وأنه هو واهبها وميسرها قوله تعالى : (( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون )) . وجؤار الناس إلى الله عز وجل إذا مسهم الضر ، وهو رفع العقيرة بالضراعة إليه بتذلل وتوجع اعتراف ضمني بزوال نعمة من نعمه التي لا يعيدها بعد زوالها إلا هو سبحانه وتعالى ، و يرتفع بذلك الضرر ويزول .
ومع أن الله عز وجل رحمة منه بالناس يكشف عنهم الضر ، وهذا في حد ذاته نعمة من نعمه ، فإنهم إذا انكشف ضرهم تنكر فريق منهم لهذه النعمة ، وجعلوا لله شركاء فيها من أنفسهم أومن غيرهم ، وهو ما ذكره الله عز وجل في قوله : (( ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون )) ، هذه منتهى الخسة والدناءة حيث ينقلب جؤارهم عند نزول الضر إلى تنكر لكاشفه مع يقينهم بأنه لا شريك له في ذلك ، ولا هو قادرعليه . ولقد جاء التعبيرعن نزول الضر بالناس بالمس، الشيء الذي يعني أنه نزول خفيف ، وذلك من رحمة الله عز وجل بهم ، وهو أيضا نعمة تحصل لهم حتى مع نزول الضر بهم إذ لو كان نزوله ثقيلا ، وغير المس لما تحملوه ولما أطاقوه . وجؤار الناس مع مجرد مس الضر دليل على قلة صبرهم وضعفهم ، ومقابلتهم شكر نعمة كشف الضر عنهم بالتنكر لها هو في الحقيقة تنكرهم للمنعم سبحانه ، وهو ما يسقطهم في بائقة الشرك لأن عدم نسبة النعم للمنعم بها جحود وكفران. ومن مسه ضر ، وكشف عنه ثم نسب كشفه لنفسه أو قدرته أو قدرة غيره، كان بمنزلة مشرك بالله إما بنفسه أو بغيره .
ولقد درج الناس على إنكار نعم المنعم سبحانه وتعالى ،وهم في ذلك صنفان : صنف يجاهر بذلك عمدا وعن سبق إصرار ، وصنف يقع فيما يقع فيه الصنف الأول عن غفلة أو جهل ، مع إنكارهم جميعا يعد واحدا . ومن أمثلة إنكار النعم على سبيل المثال لا الحصر إنكار نعمة الصحة والعافية من خلال إنكار نعمة كشف الضر لغير كاشفه سبحانه وتعالى، وذلك من خلال اتخاذ أسبابه أربابا من دون الله عز وجل، علما بأنه هو خالق الأسباب الكاشفة للضر .ويكفي الإنسان سوء أدب مع خالقه سبحانه وتعالى المنعم بنعمة كشف الضر التي بها تعود نعمة الصحة أن ينسب هذه وتلك للأسباب التي حصلت بها النعمتان معا ، وكفى بهذا شركا بالله عز وجل .
ومما يقتضيه التأدب مع المنعم سبحانه وتعالى نسبة حصول النعم إليه دون غيره نية واعتقادا راسخا ، ومن فساد الاعتقاد الغفلة عن هذا .
حديث هذه الجمعة دعت إليه غفلة كثير من المسلمين عمّا بهم من نعم الله عز وجل التي لا عد يحصيها في كل لحظة تمر بهم مع سوء وعيهم وإدراكهم وفهمهم لذلك بحيث يجعلون أفعال الخالق سبحانه وتعالى المنزهة عن العبث واللهو والباطل والذي لا يفعل إلا خيرا كأفعالهم المشوبة بالباطل والعبث واللهو والتي تعود عليهم بالسوء .ويجدر بكل مؤمن حريص على سلامة إيمانه مما ينقضه أو يلحق به ضررا أن يراجع نفسه ، ويدينها إن هي حدثته بذلك.
اللهم إنا نبرأ إليك من نسبة نعمك إلى أنفسنا أو إلى أحد من خلقك . اللهم ذكرنا بنسبة نعمك إليك وحدك لا شريك لك إذا غفلنا عن ذلك أو نسيناه أو أنساناه الشيطان الرجيم . اللهم إننا نشكو إليك ضعف شكرنا نعمك ، فتجاوز عنا عدم الشكر أو قلته أو السهو والغفلة عنه ، وتجاوز عنا تقصيرنا في أداء الشكر الواجب . اللهم اجعل شكرنا لنعمك باستخدامها فيما يرضيك وترضاه ، ونعوذ بك من الاستعانة بنعمك على معصيتك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 912