تركيز الإعلام عندنا على تسويق المبالغة في اقتناء الشراب والطعام استعدادا لشهر رمضان مفسدة لعبادة الصيام
من المعلوم أن الله عز وجل قد خلق الإنسان من روح ذات طبيعة نورانية شفافة وأودعها جسدا ماديا مظلما ، وجعل لكل منهما غذاء يناسب طبيعته ، وقدر لهما نصيبهما منه بشكل متوازن لا إفراط فيه ولا تفريط ، ذلك أن الجسد يحصل على نصيبه منه بقدر معلوم من الطعام والشراب ، كما تحصل الروح على تصيبها أيضا من العبادات . ولقد حدد سبحانه وتعالى وقتا معلوما لغذاء الروح دون أن يقيد غذاء الجسد بوقت معلوم مع فرضه على الإنسان احترام وقت غذاء الروح الذي يكون أثناء ممارسة العبادات من صلاة وصوم وحج بحيث لا يمكن خلال ممارستها أن تجتمع تغذية الروح مع تغذية الجسد في وقت واحد .
ولقد فرض الله عز وجل على عباده المؤمنين صيام شهر رمضان لتمكين الروح من نصيبها من غذائها السنوي ، وذلك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وهو غذاء يحصل عن طريق إمساء الجسد عن غذائه طعاما وشرابا ووقاعا والذي ينطلق بدوره من غروب الشمس إلى طلوع الفجر باستثناء وقت غذاء الروح أثناء صلاة العشائين وصلاة القيام .
ومعلوم أن الحكمة من فرض عبادة الصيام في شهر رمضان هي تمكين الروح من تغذية سنوية مكثفة خلال شهر كامل ، وهي تغذية لا تتاح لها في غيره من الشهور باستثناء ما يتطوع به المتطوعون من صيام أيام معدودة في باقي شهور السنة لمن أراد الزيادة في تغذية روحه على غرار الزيادة في تغذيتها بنوافل عبادة الصلاة .
وسعيا لتمكين الروح من غذائها على الوجه المطلوب في شهر الصيام لا بد من الانصراف عن كثرة التفكير في غذاء الجسد من خلال المبالغة في الاستعداد لغذائه أكثر من الاستعداد لغذاء الروح كما هو حال المسلمين اليوم مع شديد الأسف ،علما بأنه من المفروض أن يكون تفكيرهم في غذاء الجسد خلال شهر الصيام الذي هو شهر تغذية الروح أقل من تفكيرهم في تغذيته خلال باقي شهور السنة أو على الأقل مثله، لكن ما يحصل في واقع الحال أن تفكيرهم في غذائه يزداد كثيرا في شهر تغذية الروح بشكل مبالغ فيه . ومن المفروض أيضا أن تغذية الروح في أيام رمضان تصرف الناس عن التفكير في تغذية الجسد إلا أن العكس هو ما يحصل حيث يبدأ الاستعداد لتغذية الجسد قبيل حلول شهر الصيام بشكل مبالغا فيه حيث يقتني الناس من أنواع الأطعمة والأشربة ما لا يقتنونه في باقي شهور السنة باستثناء ما يقتنى في أعيادهم و في مناسبات حفلاتهم .
ويلعب الإعلام عندنا دورا خطيرا في حمل الناس على التهافت على في هذا الاقتناء من خلال تسويق أخبار المبالغة في التسوق ، والنقل الحي لما يعرض من الأطعمة والأشربة المختلفة في الأسواق والمتاجر . وقد تعمد بعض وسائل الإعلام إلى تصوير الناس وهو يتسوقون بنهم ، ويسائلون بعضهم عما اقتنوا أو عما جرت العادة في اقتنائه لاستقبال شهر تغذية الروح التي من المفروض أن تكبح جماح شهوات الجسد .
و صرف الإعلام الناس عن الاستعداد لتغذية الروح إلى الاستعداد لتغذية الجسد قد يكون أمرا مقصودا لدى بعض الجهات لها موقف من عبادة الصيام أو من التدين بدين الإسلام عموما ، وذلك لإفراغ شهر عبادة الصيام من دلالته وتحويله إلى شهر أكل وشرب فوق العادة حتى أنه قد وقر في أذهان العديد من الناس أنه كذلك . ومن العبارات المتداولة بينهم :" الله يجيب لنا باش نصوم رمضان " أي يسألون الله عز وجل غذاء الجسد، وقد تفضل عليهم سبحانه وتعالى بغذاء الروح الجائعة والمتعطشة إلى حصتها من الغذاء السنوي .
ومعلوم أن تغذية الروح بعبادة الصيام يكشف النقاب عن عيوب التركيز على تغذية الجسد ، ويحصل ذلك بشعور الناس وهم صائمون بحاجته إلى ما تعود عليه من غذاء خلال حول كامل، ذلك أن بعضهم مثلا يشعر بصداع الرأس بسبب عدم أخذ الجسد حصته من شراب معلوم تعود عليه ، وقد يكون ذلك الشراب إما سائلا أو دخانا ، وهو ما يجعلهم يصخبون ويتشاجرون، وقد يصلون إلى حد العدوان على بعضهم البعض بل قد يجرؤ بعضهم على سفك دم غيره ، وهو ما تنقله لنا أخبار وسائل الإعلام مع حلول شهر رمضان كل سنة مع شديد الأسف . وهكذا يكشف الاهتمام المبالغ فيه بغذاء الجسد عيوب الناس في الوقت المخصص لغذاء الروح، والذي من المفروض أن يسمو بهم إلى عالم السمو الروحي . وعلى غرار عيب وجع الرأس يعاني كثير من الناس من عيوب أخرى كالتعب والميل إلى الارتخاء و كثرة النوم ، والشعور بأنواع منة الآلام في الجسد تعزى إلى حاجته إلى ما تعود عليه من أنواع الأطعمة والأشربة المباحة أما يحصل له من حالات غريبة لدى من عودوه المحرمة منها ،فحدث عنه ولا حرج .
وإن كثيرا من الناس تغنيهم تغذية الروح بالصوم عما يعمدون إليه من أنواع مختلفة من الوقاية والرياضات طيلة السنة ، نذكر منها على سبيل المثال رياضة المشي التي ينصح بها الأطباء ، فنراهم كل صباح في الشوارع والفضاءات العمومية المختلفة فرادى و جماعات يقطعون عشرات الكيلومترات مشيا على الأقدام للتخلص من دهون الجسد المتراكمة بسبب الإفراط في تغذيته ،علما بأن الصوم علاج يخلصه من الكثيرمنها أيضا .
ولا فائدة من هذا العلاج المهم إذا كان الإقبال على الطعام والشراب في ليالي رمضان بشكل مبالغ فيه ، علما بأن الجسد له احتياطه من المواد والدهون المضرة الذي لن ينقص منه شيء إذا بالغ الإنسان في تناول الطعام والشراب خلال ليالي شهر الصيام .
وإذا كان من المفروض أن ترتاح النفوس وتنشط بتغذية الروح ،وهو ما تتوخاه الحكمة الإلهية من تعبد الناس بعبادة الصيام ، فإن العكس هو الحاصل مع الأسف بالنسبة للذين يرتاحون لتغذية الجسد فقط حيث تضطرب نفوسهم ، ويحملون مسؤولية ذلك للصيام ، ويتخذونه ذريعة لتبرير ما قد يقع منهم من خروج عن أطوارهم في سلوكاتهم اليومية وما يقع منهم من تقصير في القيام بالواجبات المؤدى عنها أو كسل وتراخ في القيام بها .
وفي الأخير نرجو أن يقلع الإعلام عندنا مرئيا ومسموعا ومقروءا ورقميا وفي كل بلاد الإسلام عن أساليبه في صرف الناس عن غذاء الروح خلال شهر التكثيف من تغذيتها من خلال المبالغة والإكثار من تسويق أخبار غذاء الجسد من مأكولات ومشروبات غير معهودة في باقي شهور السنة ، كما نرجو أن يقلع هذا الإعلام أيضا عن عادات سيئة من خلال صرف الناس عن شكل آخر من تغذية الروح يحصل في ليالي شهر الصيام والذي يتمثل في عبادة القيام، وذلك بتجنب تقديم البرامج اللهو العابثة التي تهوي بالنفوس إلى درك منحط من الغفلة عن سمو الروح في شهر سموها كي تستعيد توازنها بين روح تزكيها وجسد يدسّيها .
وإذا كنا لا نعول على الإعلام في تحقيق الحكمة من عبادة الصيام، وقد عودنا على خيبة الأمل فيه مع شديد الأسف ، فإن المعول عليه هو همم المسلمين التي نعلق عليها الأمل العريض كي تستعيد أمتنا طاقتها الروحية المعطلة ، والتي هي سلاحها لخوض غمار نزال خطير ومصيري مع عالم اليوم الغارق في أوحال شهوات الجسد المادية والمانعة لنورانية الروح التي هي قوام كرامة نفس الإنسان التي يراد نزعها منه من خلال النزول والتردي به إلى مستوى بهيمي تحكمه شهوتا البطن والفرج فقط .
وسوم: العدد 923