من نفحات شهر الهدى والفرقان، تَوَهُّج الوعي
يقول الله تعالى : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان ) 185/ البقرة . ولقد ورد عند أهل التفسير عدة معان لكلمة ( هدى للناس ) ، فمن معانيها وما ترمي إليه الثبات على الحق ، لقوله تعالى : (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) 6/ الفاتحة . أراد التمسك والاعتصام بالإسلام . كما جاءت بمعنى الإصلاح ، لقوله تعالى : ( لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) 52/ يوسف ، وهنا نلمح معاني إصلاح النفوس قبل تبابها ، ومن معانيها الإلهام لقوله عزوجل : (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) 50/طه ، كما جاءت في معان أخرى حسب سياق مافي الآيات كالدعاء والإيمان والقرآن .
خلق الله الإنسان وهيأه لاستقبال نفحات الهدى ، فمنحه البصر والبصيرة ، ومكنه من الغوص في أسرار هذا الكون ، وأرشده في كثير من الآيات للسعي في الأرض من أجل إعمارهـا ، وأعد له في بيئته التي يعيش فيها كلَّ أسباب ازدهار الوجه الحضاري الذي يتغنى به الناس ، وحث الإنسان على ارتياد مواطن الهداية التي تنقذه من مواطن الجهل والجحود والبطالة الفكرية ، وأعلى مقام أهل العلم والمعرفة الذين يخشون الله بعد أن رأوا آياته الباهرات ومعجزاته في الإنسان وفي الكون وفي كل ماخلق سبحانه وتعالى . وكلما ابتعد الإنسان عن أسباب السمو بنفسه كلما نراه وقد اشتدت غفلته ، وفقد أثمن مايمكن أن يحمله إلى دار الخلود . فإن كل مافي الوجود يدل على وجود الله وعلى قدرته وعلى عدله ورحمته بعباده ، ولعل فقدان هذه المشاعر عند بعض الناس دليل على تخلفهم ، ودليل على فقدان الوعي بخصائص التكريم الإلهي للإنسان . وفقدان هذا الوعي يعني أن الإنسان قذف بذاته وراء ظلمات الجهل والضياع والقلق ، وحاصر نفسه في بيئة قاحلة متصحرة لاخير فيها ، وفي هذه البيئة آخى اللامبالاة التي أفقدته الحرص على إحياء توهج الوعي الذي من خلاله يدرك أنه قادم على أمر عظيم تشيب لهوله الولدان ، إنه أمر الآخرة يوم الحشر والحساب ، فإما إلى جنة وإما إلى نار . فمن دخل الجنة فقد فاز وكان من السعداء ، ومن دخل النار فقد خسر وكان من الأشقياء .
والعبادات في ديننا الحنيف ترتقي بالنفس لتسمو وترقى وتسعد وتطمئن ... فهي تجدد القدرة على الثبات على مدارج الحق ، وتجعل السلوك الحسن والسيرة الفاضلة مزايا لرقي البشر ، فلا متاجرة بكراتين الزور الجوفاء ، ولا مزايدة على احترام حقوق الإنسان ، فالوعي هنا من الإرادة القوية التي تأبى الانحدار أو التراجع عن معالي الأمور . إنه يصرف المقاصد النبيلة صوب السداد والرشاد ، ففي الصوم جوع وعطش ، وإمساك عن اللذائذ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، أي في الصوم تربية للنفس على الصبر وعلى التوجه إلى أمر أغلى من الطعام والشراب وسائر الطيبات ، وفي الصوم قيام إلى آفاق أخرى غير التي نشاهدها بأعيننا ،وحيث يحيي هذا القيامَ توهجُ وعيٍ يهبه الله للصادقين والصادقات من عباده ، فيأنس صاحبه بمناجاة الله ، ويتمتع بربح معنوي ملموس آناء الليل وأطراف النهار ، فيشعر بقيمة هذه الحياة الدنيا رغم زوالها ــ بعد حين ــ إنها مزرعة الآخرة ، وإنها جسر منصوب على ظلمات من الأكدار والأخطار ، ولا يجوز عليه وينجو إلا مَن وُهبَه الله الوعي ، وكان من المؤمنين حقا . وهذا الوعي ليس باشتراك مؤقت في عمل ما ، ولا هو لاجتماع طارئ لمسألة ثم ينتهي الأمر ، وإنما هذا الوعي هو حلة انتشاء الروح بالقيم العالية ، والطموح الأعلى حيث لاتفتر خطوات الساعين به إلى رضوان الله سبحانه وتعالى . وصاحب هذا الوعي يشعر بضرورة إثراء الحياة بما ينفع من سيرة محمودة في كل مجالات الحياة ، وهذا الوعي يحيي لديه العزيمة ، ويشده للإقدام الذي يؤثره على الركون والدعة . صاحب هذا الوعي لاينتظر مَن يأذن له بتفعيل عزيمته ، وإنما هو زرع وهو من جــدَّ واجتهد ، وهو بالتالي مَن يقطف ثمرات سعيه واجتهاده ، فالوعي رابط مكين لرواد الهــدى في كل المجالات ، وهنا يخسر المبطلون الذين يتغاضون عن فتح أبواب شهر الهدى والفرقان للخلق أجمعين ، فماتت قلوبهم ، وانحسرت عزائمهم ، رغم كل ماوهب الله لهم من قدرات جسمية وعقلية وروحية ، وصدق القائل :
لاخيرَ في حُسْنِ الجُسومِ وطولِهــا... إن لـم تزنْ حُسْنَ الجُسُــومِ عقولُ
وسوم: العدد 923