( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)
حديث الجمعة
من المعلوم أن الناس منذ فجر التاريخ يحبون بطبعهم السعادة وينشدونها ، ولكنهم يختلفون في طرق طلبها والحصول عليها ، ويمكن تصنيفهم إلى فئتين : فئة تنشد سعادتها فيما هو مادي محسوس ، وأخرى تنشدها فيما هو روحي . وباختلاف تصورهم للسعادة يختلف اعتقادهم حيث ينفي الذين يطلبون السعادة المادية وجود حياة أخرى غير الحياة الدنيا المحكوم عليها بالفناء ، بينما يقر الذين يطلبون السعادة الروحية بوجود حياة أخرى خالدة بعد الحياة الدنيا الفانية.
وعبر تاريخ البشرية الطويل أرسل الله عز وجل رسله الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين إلى الناس برسالات يتلونها عليهم لتنبيههم إلى أنهم خلقوا لحياة خالدة يمرون إليها عبر حياة فانية خصصت لابتلائهم ابتلاء يترتب عنه وضعهم في تلك الحياة الخالدة ،والذي لا يخرج عن أحد أمرين : خلود في نعيم أو خلود في جحيم .
ولقد ركزت الرسالات المنزلة من عند الله عز وجل على بيان حقيقة السعادة الحقيقية التي يجب أن ينشدها الناس ، ذلك أنه ما من نبي أو رسول بعثه الله تعالى إلى قومه إلا ودعاهم إلى طلب تلك السعادة الحقيقية ، وحذرهم من السعي إلى سعادة وهمية مآلها الزوال . ودعوة الأنبياء والرسل الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين إنما كانت دائما إلى سعادة حقيقية أبدية في حياة أخرى تأتي بعد هذه الحياة الدنيا . ومعلوم أن سبل طلب السعادتين الوهمية والحقيقية تختلف ، وهذا ما كان الأنبياء والرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يوضحونه لأقوامهم .
ولمّا ختم الله عز وجل رسالاته برسالة خاتمة للناس أجمعين إلى قيام الساعة أمر حامل هذه الرسالة إليهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بتوجيههم إلى سبيل السعادة الحقيقية بواسطة ما أوحاه إليه قرآنا وسنة ، وجعله قدوة وإسوة لهم في طلب تلك السعادة التي توصل إليها طاعته سبحانه وتعالى فيما أمر ونهى .
وعبر تاريخ البشرية الطويل كان طلاب السعادة الوهمية التي يقتصر وجودها على الحياة الدنيا الفانية يسخرون من طلاب السعادة الحقيقية في الحياة الأخرى الخالدة ، ولا زالوا على ذلك ، وسيبقون كذلك إلى قيام الساعة .
ومع أن حظ الناس جميعا كافرهم ومؤمنهم واحد مما يصيبون في هذه الحياة الدنيا من ملذات ... مع تفاوت في حجم ما ينالون من ذلك ، فإنهم ليسوا سواء في التعامل معها حيث يعتبرها أصحاب الاعتقاد بالسعادة الدنيوية غايتهم النهائية ، بينما يعتبرها أصحاب الاعتقاد بالسعادة الأخروية مجرد وسيلة توصلهم إلى غايتهم النهائية التي هي تلك السعادة الأخروية .
ومقابل حرص طلاب سعادة الدنيا على نيل أقصى ما يمكنهم من متع مادية، وهو ما يجعلهم يجمعون كل ما يحققها لهم ، نجد طلاب سعادة الأخرى لا يسلكون مسلكهم بل يوظفون ما يقع منها تحت أيديهم وسيلة توصلهم إلى ما هو خير وأدوم وأبقى.
وحتى لا ينساق طلاب السعادة الأخروية وراء سلوك طلاب السعادة الدنيوية في جمع ما به تحصل سعادتهم الزائلة ، تعهدهم الله عز وجل في محكم التنزيل بعنايته فقال مخاطبا رسوله بالتبليغ عنه : (( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )) . ولقد أجمع المفسرون على أن المقصود بفضل الله عز وجل ورحمته هو الرسالة الخاتمة المنزلة على خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم لما فيها من هدي يوصل إلى السعادة الأبدية في الآخرة .
ومعلوم أن الفرح يعني شدة السرور، وشدة التعلق بما يكون سببا في الفرح ، كما يعني الزهو به والبطر والكبرياء كما جاء في وصف قارون جامع الكنوز والذي أخبرنا الله تعالى عنه في محكم التنزيل بقوله : (( إذ قال له قومه لا تفرح إلا الله لا يحب الفرحين )) . ولقد جعل الله تعالى فضله ورحمته خيرا مما يجمع ما جمع قارون وأمثاله في كل عصر ومصر من كنوز مصيرها إلى فناء وزوال .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين إلى ما نبه إليه الله عز وجل وهو الفرح بفضله وبرحمته ونحن في شهر المغفرة والرحمة والعتق من النار ، وقد بلغنا سبحانه وتعالى العشر الأواخر منه ، وفيها ليلة خير من ألف شهر . وجدير بنا أن تكون فرحتنا بما جعل الله تعالى من فضل ورحمة في هذا الشهر الفضيل لا بما يفرح به من يجمعون متاع الدنيا الزائل . وكثير من المؤمنين من يجارون جامعي هذا المتاع في فرحهم به غافلين عما يجب الفرح به من فضل الله تعالى ورحمته . ومما يلاحظ لدى الكثيرين أنهم يقبلون على استقبال شهر الصيام بما يستقبل به غير المؤمنين مناسباتهم من فرح بالملذات والشهوات مع أن الله تعالى لم يجعل هذا الشهر الفضيل شهر فرح بالشهوات بل جعله شهر فرح بنفحاته الربانية من صيام كابح للشهوات ، وإنفاق يكسرها ، وقيام يسمو بالنفوس لاستشراف السعادة الحقيقية ، وبذلك يكون الفرح الحقيقي الواجب نشدانه .
ومما يدعو إلى الأسف والحسرة أن شهر الفرح بفضل الله عز وجل ورحمته يتحول عند كثير من الناس إلى شهر فرح بالطعام والشراب وبجمع كل ما يجمع من مال وغيره جمعا غير مشروع يفرحون به ، ويصرفهم ذلك عن الفرح الحقيقي الذي أمرهم به رب العزة جل جلاله .
إن أولى الناس بالفرح هو من قضى أيام رمضان المعدودات في صيام وقيام وإنفاق لم يشبهم ما يفسدهم من رفث أو صخب أو رياء أو غير ذلك مما يتعارض مع الاستقامة المطلوبة في هذا الشهر الفضيل وفي غيره من أيام الله عز وجل.
اللهم إنا نسألك فرحا بفضلك ورحمتك يغنينا عما يفرح به غيرنا مما يجمعون . اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق واجعلنا من الراشدين فضلا منك ونعمة .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 929