( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين )
حديث الجمعة
من المعلوم أن الانتماء إلى حظيرة الإسلام يكون على ثلاث مراتب تحدث عنها الله عز وجل في محكم التنزيل من خلال وصف المنتمين إلى هذه الحظيرة تارة بالمسلمين ، وتارة بالمؤمنين ، و تارة أخرى بالمحسنين ، وهو ما أكده الحديث المشهور الذي رواه الفاروق رضي الله عنه حين حضر جبريل عليه السلام جلسة من جلسات رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ليعلمهم أمر دينهم ، فجعل يسأله عن أمور وحين يجيبه يصدقه ، وهو ما أثار إعجاب الفاروق، وكان صاحب فراسة وفطنة من أمر من يسأل سؤال المستطلع ثم يصدق الجواب كالعالم به . ومما سأل عنه جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ، والإيمان ، والإحسان ، وهو تصنيف القرآن الكريم للمنتمين إلى حظيرة دين الله عز وجل ، فيه تراتبية حيث يعتبر الإيمان درجة فوق الإسلام ، والإحسان درجة فوقهما ، ذلك أن المحسن يعبد الله عز وجل كأنه يراه ، وهي قمة العبادة التي أثنى عليها الله تعالى في محكم التنزيل ، وجعل أصحابها ممن يحبهم ، ويقربهم ، ويرفع من شأنهم في عاجلهم وآجلهم .
ومما يوصل إلى هذه الدرجة الجهاد في الله عز وجل كما جاء في قوله تعالى : (( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين )) حيث ربط الله تعالى بين الجهاد فيه ، وهو جهاد في مرضاته كما جاء في كتب التفسير وبين صفة الإحسان التي وردت في تذييل قوله تعالى (( وإن الله لمع المحسنين )) .
ومعلوم أن الجهاد في الله عز وجل أنواع و درجات منها جهاد القتال بالنفس أو المال، فضلا عن أنواع أخرى يجمع بينها هدف مرضاة الله عز وجل . وقد جاء في سبب نزول قوله تعالى : (( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا )) أن الأمر يتعلق بالجماعة المؤمنة قبل الهجرة ، وقبل أن يشرع لها جهاد القتال ، وذلك لما كانت عليه من حرص على الاجتهاد في مرضاة الله عز وجل ، وقد سمى ذلك سبحانه وتعالى جهادا ، وجعل جزاءه ومنحته الهجرة النبوية المظفرة ، وهو المقصود بقوله عز وجل : (( لنهدينهم سبلنا )) كما جاء في كتب التفسير . ومما خص به جل في علاه أصحاب هذا النوع من الجهاد معيته، وهي عنايته واهتمامه بهم ، وقد جاء تعبيره عنها بتوكيدين : (( وإن الله لمع المحسنين )) .
ولما كانت العبرة في كلام الله عز وجل بعموم لفظه لا بخصوص سببه، لأنه رسالته سبحانه وتعالى للعالمين ، فإن حكم هذه الآية ينسحب على كل من يمارس هذا النوع من الجهاد في كل عصر و في كل مصر إلى قيام الساعة ، وقد جعله الله تعالى مبتغى كل محسن من عباده . وبناء على هذا تحصل معيته لكل من جاهدوا فيه مجتهدين في مرضاته بصالح الأعمال التي يعبدون بها خالقهم كأنهم يرونه، وإن كانوا لا يرونه وهو يراهم ، وما أكثر الأعمال الصالحة التي تبلغ أصحابها مرتبة هذا الإحسان .
وقد تسد الأقوال التي فيها مرضاة الله عز وجل مسد الأفعال لما يكون لها من أثر يجعلها تترجم إلى افعال بع . ولا يمكن الاستهانة بمثل هذه الأقوال التي تترجم إلى أفعال كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء فيه : " الدال على الخير كفاعله " وفي رواية أخرى : " من دل على خير فله مثل أجر فاعله أو عامله " . وبهذا يتساوى فعل الخير مع الدلالة عليه بالقول في الأجر عند الله عز وجل ، ويحوز به صاحبه درجة الإحسان ومعية الله عز وجل .
وكما يكون الدال على الخير كفاعله ، يكون في المقابل الدال على الشر كفاعله ، ويكون إثمهما واحدا .
مناسبة حديث هذه الجمعة فرضه ظرف ما يحدث اليوم في بيت المقدس وأكنافه من دفاع المؤمنين في أرض الإسراء والمعراج على مقدساتهم ، وصمودهم أمام طغيان المحتل الصهيوني الذي يستهدف تهويد مدينة القدس ، وتقويض المسجد الأقصى لإقامة هيكله المزعوم ، وقد بلغ به الأمر حد الإقدام على منع أصحاب الأرض من الوصول إلى أولى القبلتين وثالث الحرمين في شهر رمضان المعظم لأداء الصلاة فيه ، وهو ما جعل جهادهم يتطور من جهاد صمود دفاعا عن مقدساتهم إلى جهاد قتال كما تنقله وسائل الإعلام .
وفي هذا الظرف الذي أجمعت الأمة الإسلامية في كل المعمور على إدانة الاعتداء الصهيوني السافر على المقدسات في أرض الإسراء والمعراج وعلى أهلها ، يغرد بعض المحسوبين على الأمة وقلوبهم مع غيرها خارج السرب كما يقال متظاهرين بإسداء النصح المغشوش والمكشوف إلى المرابطين الصامدين بها كي يستسلموا لعدوهم ، ويقبلوا بالعيش تحت نير الاحتلال الغاشم محاولين تيئيسهم من تحقيق حلمهم في الاستقلال والعيش الكريم في ظله واصفين صمودهم بتضييع فرصة السلام ورغد العيش على حد قولهم جنبا إلى جنب مع عدو احتل أرضهم بالقوة ، وقد سلمها له محتل سابق احتلها بالقوة أيضا ، وهم بذلك إنما يحاولون عبثا تثبيط عزائمهم معتمدين أسلوب التشكيك في النصح الصادق لهم بالثبات والصمود حتى النصر .
ومن جهاد القول الذي يعدل جهاد الفعل أجرا عند الله عز وجل ألا ينقطع تثبيت المرابطين في أرض الإسراء والمعراج دفاعا عن أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين لمواجهة كل محاولة تهدف إلى الفل من عزائمهم ، ويكون ذلك من خلال تذكيرهم بما أعد الله عز وجل للمجاهدين فيه وفي سبيله بأموالهم وأنفسهم عاجلا وذلك بما وعدهم به من معيته ، ومن نصر ناجز في محكم التنزيل ، وآجلا وذلك بما أعد لهم من نعيم مقيم خص به المحسنين من عباده .
اللهم ثبت عبادك المرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس ، وانصرهم نصرا تعز به دينك ، وتذل به من عاداه .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 929