( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم )
وجيز التفسير
وللآية أخوات في كتاب الله منها قوله تعالى (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) ومنها في خطاب سيدنا موسى ( وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا..)
ويُشكل الأمر على البعض، فكيف نؤمر بالأخذ بالأحسن، وكتاب الله كله حسن، وشريعة الله كلها حسنة...!!!
وللمفسرين في تفسير هذه الآيات ونحوها، أقوال كثيرة ، أشهرها أنه أمر بالأخذ بالكل لأن الكل حسن، أمر بالأخذ بالكل، من الالتزام بالمأمورات واجتناب المنهيات ..
ويذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود " بأحسن" أن العفو أحسن من القصاص، وأن المسامحة أحسن من الاقتضاء ..وهكذا يديرون تفسير هذه الآيات على التشريعات التخييرية بين قابي الحق والعفو في العلاقات أو قوله تعالى وأن تصوموا خير لكم أو تشريعه ( ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ )...
وأقول وبالله التوفيق وعليه التكلان ..
إن الأحسن المأمور به في الآيات هو الأحسن " النسبي " في ظرفه، وفي شخوص من توجه الأمر إليه أفرادا كانوا أو مجتمعين. ففي كل عصر ومصر وبيئة وظرف ، هناك أحسن من أمر هذا الدين، يتقدم أمره على غيره في وجوب الأخذ به أو الانتهاء عنه .
فالأحسن من أمر هذا الدين - بالنسبة إلى الرجال غيره بالنسبة إلى النساء ، والأحسن بالنسبة إلى الشباب غيره بالنسبة إلى الشيوخ. والأحسن بالنسبة للأقوياء غيره بالنسبة للضعفاء، والأحسن بالنسبة إلى الأغنياء غيره بالنسبة للفقراء، والأحسن بالنسبة للأصحاء غيره بالنسبة للمرضى، والأحسن بالنسبة للمقيمين غيره بالنسبة للمسافرين، والأحسن وقت الفراغ غيره وقت الضيق، والأحسن في عهد القوة غيره في عهد الضعف، والأحسن في زمن السلم غيره في زمن الحرب ولو استرسلنا في التمييز لطال بنا الأمر.
وهذا باب واسع من الفقه والعمل وترتيب الأولويات، والاشتغال بالأحسن من آيات الله - وآيات الله كلها حسن - كلٌ في وقته، على وجه من الحكمة يقتضيها واقع الحال الفردي للمسلم الفرد، أو الجمعي للمسلمين في بيئاتهم وأقطارهم ..وكم زاد المسلمين رهقا أقوام ، حملوهم في وقت ضعفهم على الأحسن من أحكام الشريعة في وقت وقتهم، وفي زمان تفرقهم على الأحسن في زمان توحدهم ، وظنوا أن يحسنون صنعا وما دروا أنهم يخلطون.
وحين غفل الناس عن هذا المعنى في كتاب الله، اضطرب في عقولهم وقلوبهم ترتيب أولويات الحسن المختار للحظتهم ولساعتهم وليومهم ولعموم عصرهم ..
وأحسن الحسن لمن قارب الموت أن يؤكد شهادة " أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله "
وأحسن الحسن للشيخ الهِِمّ الاشتغال بالذكر والعبادة ..
وأحسن الحسن بالنسبة لرجل التدبير والتقرير أن يعمل فكره في أمور المسلمين ..
وأحسن الحسن بالنسبة للرجل للمدافع عن الحمى أن تكون عينه مفتوحة على مصالح المسلمين حراسة وحفظا..
وأحسن عبادات المكثرين الأغنياء في أيام الجوع والمسغبة البذل والصدقة...
وأحسن عبادات المقلين السعي والكدح والجد وطلب الحلال.
وزواج الشاب التئق أحسن من حجه ومن عمرته، وكذا من "صومه الوجاء" إن كان قادرا على الزواج ...
وهكذا نجد أننا أمام منظومة متضامّة متناسقة من التكليفات " إيجابا ونهيا " كلها حسن وكلها جميل، ولكن يكون الالتزام أو الكف عن بعضها، بالنسبة إلى "المكلف" أو الظرف الذي هو فيه أولى وأحسن ، ويتقرر هذا بالنسبة للفرد، كما بالنسبة للجمع ..ويتغير هذا بتغير المعطى، فيكون لنا في كل ظرف أحسنُ يجب علينا تقديم اتباعه ، ويكون في بعض الأحيان الاشتغال عنه بغيره ، اشتغالا بغير الأحسن الذي قد يدخل تحت عنوان التفريط والتضييع والتمييع.
ومعرفة الأحسن من كل أولئك هم من علامات الرشد ودلالات النضوج، ومن هنا قال الأول ، من كان في قوم شاع فيه الربا وحدثهم عن قبح الزنا فقد خان.
اللهم ألهمنا رشدنا حتى ندرك الأحسن لنا ولقومنا في يومنا وفي غدنا ..هذا "والله أجل وأعلم"
وسوم: العدد 932