( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين )
من المعلوم أن الله عز وجل أخبرنا في محكم التنزيل عن حديث جرى بينه سبحانه وتعالى وبين ملائكته الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين بخصوص خلق الإنسان، وذلك في قوله عز من قائل : (( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ))، وقد ذهب بعض أهل التفسير إلى أن المقصود بالخليفة هو أنه سبحانه وتعالى جعل لآدم عليه السلام ذرية يخلف بعضها بعضا أو جعلها أجيالا تتعاقب إلى ما شاء الله تعالى ، وقال البعض الآخر إنه سبحانه استخلف الإنسان في الأرض ليكون سعيه فيها سعي صلاح وإصلاح ،وذلك بالتزام طاعته فيما أمر وما نهى . ووقف المفسرون عند قول الملائكة عندما أخبرهم الله عز وجل بجعل الإنسان خليفة في الأرض : (( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )) ،فقال بعضهم إن الله تعالى أخبرهم بإفساد الإنسان في الأرض وسفكه للدماء ، وقالوا آخرون لقد كان لهم علم من قبل بإفساد الجن في الأرض وسفكهم للدماء وقد سكنوها قبل الإنسان.
وقالوا إن قول الملائكة لم يكن اعتراضا على إرادة الله عز وجل ولا حسدا للإنسان ، وإنما كانوا يستطلعون و يسألون عن حكمته سبحانه من خلق من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، فأخبرهم بأنه خلقهم للابتلاء في الحياة الدنيا والجزاء في الآخرة، وأنه سيكون منهم صالحون مصلحون وفاسدون مفسدون ،وبهذا كان الإخبار بالحكمة من استخلاف الإنسان في الأرض وهو ابتلاؤه .
واللافت للنظر في ما أخبر به الله تعالى على لسان ملائكته الكرام هو ذكرهم لفعلين مستقبحين يصدران عن الإنسان وهم الإفساد في الأرض وسفك الدماء . أما الإفساد في الأرض فهو كل فعل لا يرضاه الله عز وجل والذي من شأنه أن يخل بالطبيعة الصالحة التي خلق عليها الأرض ليحيى الإنسان فيها حياة كريمة هادئة مطمئنة ، وأما سفك الدماء فهو قمة الإفساد فيها بحيث يقدم على إزهاق الأرواح من لم يخلقها. وبهذا جعل الله تعالى مدار الابتلاء في الحياة الدنيا والجزاء عنه في الآخرة تجنب الفساد والإفساد في الأرض بالمعنى الواسع للفساد والإفساد . ولقد وعد الله سبحانه وتعالى الذين لا يفسدون في الأرض ولا يبغون ولا يطغون فيها بحسن العاقبة في الآخرة مصداقا لقوله تعالى : (( وتلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين )) ولقد وردت هذه الآية الكريمة بعد سرد خبر قارون الذي آتاه الله تعالى كنوزا أموالا ،فاستعلى وطغى في الأرض وأفسد فيها، فكانت عاقبته أن خسف به داره في الدنيا وأعد له عذابا شديدا في الآخرة . والملاحظ أن الذي حمل قارون على الإفساد والعلو والبغي في الأرض هو المال كما وصفه الله تعالى في قوله : (( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتيحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين )) . والغالب أن من يفسد في الأرض ويعلو فيها إنما يطغيه المال أو السلطان كما كان الحال بالنسبة لفرعون علما بأن هذا الأخير قد ساهم المال في طغيانه إلى جانب السلطان حيث قال الله تعالى على لسان موسى عليه السلام : (( وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروى العذاب الأليم )) .ومعلوم أن إفساد وعلو فرعون في الأرض بلغا ذروتهما باجتماع المال والسلطان لديه .
ولقد أغلى الله تعالى ثمن الجنة إذ جعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا أي لا يفسدون ولا يطغون فيها مهما كانت طبيعة أو نوع أو حجم فسادهم وطغيانهم . ويقال أن الفضيل بن عياض لما قرأ قول الله عز وجل : (( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين )) قال : " ذهبت الأماني ههنا " ،وهو يقصد أماني الذين يزعمون أنه لا يضر مع الإيمان شيء، وأن كل المؤمنين ناجون من العقاب، وهو قول فرقة المرجئة وقد قال قائلهم:
مناسبة حديث هذه الجمعة هو التنبيه من خطورة الإفساد والعلو في الأرض مهما كانت طبيعتهما أو نوعهما أو حجمهما لأنه قد يستخف بعض الناس ببعض الأقوال أو بعض الأفعال وهي من الإفساد والعلو في الأرض علما بأن إفساد ما جعله الله تعالى صالحا هو استعلاء على إرادته تعالى عن ذلك علوا كبيرا . والمفسد المستعلي في الأرض والداعي إلى ذلك والمشجع عليه سيّان في الجرم والإثم .
ومن غفلة كثير من الناس أنهم لا يبالون بما يصدر عنهم من أقوال أو أفعال قد تتسبب في الإفساد والعلو في الأرض وهم يعتقدون أن ما يفعلونه هو عين الصواب ، والحقيقة أنهم يسنّون أسوأ السنن التي عليهم وزرها ووزر من يعملون بها إلى يوم القيامة كما جاء في الحديث .
وأسوأ إفساد في الأرض تعطيل العمل بما أمر وشرع الله عز وجل والعمل مقابل ذلك بما نهى عنه والدعوة إليه أو الأمر به كما هو الحال بالنسبة للذين يروجون لفعل المنكرات بين المسلمين تقليدا لغيرهم ممن لا دين لهم . وإن الذين يقدمون على ذلك من المسلمين إنما يغامرون بمصيرهم في الآخرة التي جعل الله تعالى النعيم فيها دار مقام أبدي للذين لا يريدون علوا ولا فسادا في الأرض ، وجعل الجحيم دار بوار لمن أفسدوا واستعلوا فيها.
مما يجب التنبيه إليه أيضا هو الوقوع في الإفساد عن طريق تلقف أشكال منه عبر وسائل التواصل الاجتماعي أووسائل الإعلام حيث يتناقل ويتداول الناس منها ما لا داعي لسرده وهم غافلون عما في ذلك من إثم وجرم ، ويظنون أنهم يتبادلون فيما بينهم ما لا بأس به ولا ضرر يترتب عنه. لهذا يجدر بهم أن يحذروا من ترويج وتسويق ما يكون سببا في الفساد أو الإفساد أو البغي .
اللهم إنا نعوذ بنور وجهك الكريم أن نأتي ما نهيت عنه من إفساد أو علو في الأرض . ونسألك اللهم الدار الآخرة التي جعلتها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، ونسألك اللهم العاقبة التي جعلتها لعبادك المتقين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 940