( إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا )
وجيز التفسير
والآية من سورة المزمل، وكانت سورة المزمل من أول ما نزل. وفيها شُرع قيام الليل، وفرض الله فيها القيام، وأثنى فيها على الفائمين..
وكان مطلعها ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلا إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا )
واختلف المفسرون في تفسير السبح الطويل على قولين، الأول أنه بعد أن فرض عليه قيام النصف والثلث من الليل، جعل له من النهار وقتا للنوم والراحة؛ للتعويض عما فاته في قيام الليل. وهو قول وإن كان مشهورا، مرجوح، لكل من تأمل سياقات القرآن الكريم في المواطن الأخرى مثل ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ) ومثل ( وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ) ويتأكد هذا المعنى في آيات القرآن الكريم في مواطن كثيرة ..
وبهذا جاء القول الثاني من أقوال المفسرين في تفسير قوله تعالى ( إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا ) قالوا: فراغ طويل لتسعى على نفسك، وتحقق مصالحك ومقاصدك، في السعي على النفس، وطلب الرزق، وفي تحقيق غير ذلك من مقاصد الإنسان.
ثم بعد أن فرضت الصلوات الخمس على المسلمين تعزز أكثر مفهوم التفسير الثاني، وتأكد مقتضاه. وبقليل من التأمل ندرك معنى هذا "السبح الطويل " في الفترة التي تطول بين صلاة الفجر أو الصبح وبين صلاة الظهر أولا ، ثم بين صلاة الظهر إلى صلاة العصر، ثم من العصر إلى المغرب..كل أولئك وقت للسبح الطويل، أي للسعي والجد والاكتساب والانجاز.
في السياق نذكّر بالحديث الشريف الذي ذكر الصحابة فيه رجلا منهم، قالوا كذا من صلاته، كذا من صيامه، كذا من ذكره ..فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم سؤال تنبيه وتعليم : فأيكم كان يخدمه؟ قالوا : كلنا كنا نخدمه . قال صلى الله عليه وسلم: كلكم خير منه. هذا فقه كم يحتاج المسلمون إلى منهجه اليوم.
كم نحتاج إلى إعادة التأكيد على هذه المعاني الإسلامية الشرعية، في ضبط حياة المسلم ، وبرنامجه اليومي والساعي، أمام حالة من الغلو والمبالغة تجتاح حياة المسلمين، فتؤثر على كثير من تصوراتهم وبرامجهم وتستهلك الكثير من أعمارهم وأوقاتهم.
يرسل لك أحدهم برنامجا لما يسميه " عمل اليوم والليلة " فيلفتك فيه أنه يبرمج لك الدوران بين الحنفية والقبلة والمسبحة، وتجد أنك لو التزمت بما ذكر صاحب ذلك البرنامج من دقائق ورقائق، لن تجد وقتا لتفطر فيه من صيام، وإن كان طعامك موفورا وخبزك الذي تستفه مدقوقا ..
قرأت مرة في سير بعض الصالحين في حرصه على الذكر والتلاوة ، أنه كان يستف الخبز مدقوقا، يقول بين السف والمضغ قدر ثلاثون آية ...!! قلت: وما شأن أولئك اللواتي يدقون له ليستف ،ألسن مكلفات مثله بعبادة وذكر ؟؟
جميل أن يفتتح الإنسان يومه بالذي هو خير ، من ذكر لله وتذكير به، وصلاة على نبيه، صلى الله عليه وسلم ؛ أما أن يجلس طوال النهار أما شاشة حاسوبه ليس له عمل غير التذكير والحوقلة والتسبيح ومطالبة الناس أن يذكروا بذكره وأن يتعظوا بقوله ،وفي عالم المسلمين من حوله كثير من المغلقات تحتاج إلى توضيح وبيان ، وكثير من الشبهات تحتاج إلى شرح أو فضح؛ فما ذلك في برنامج أهل الرشد من فعل الصالحين ...!!
تمر بالمسلم الذي يحمل في قلبه همَّ الأمة ، كثير من المواطن التي يود أنه كُفيها، وكُفي القول فيها، فينظر من حوله فإذا من حَقّ عليه القول فيها من المسلمين؛ يرفل في طيب " صلوا على سيدنا الرسول " أو يتيه في ثنايا التاريخ، فينصب نفسه حكما بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، أو بين ابن تيمية وشيوخ عصره الذين تسببوا بحبسه، غفر الله للجميع ، ومثل هذا كثير في عمل يومنا وليلتنا بينما ظلمة الباطل من حوله تغتال العقول، وتتغشى القلوب ..
ليس هذا من منهج الإسلام ، ولا من طريقته ، ولا من عمل أهله....
( إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا ) أولا ، وفي شرعة الصلوات الخمس التي لا تستغرق من حياة المسلم جميعها أكثر من ساعة من الأربع والعشرين ثانيا.. منبهة على برنامج عمل قويم .. ( وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ )
لف ونشر مرتب كما يقول البلاغيون ...
وسوم: العدد 942