( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولوعلى أنفسكم أو الوالدين والأقربين )
من المعلوم أن الله عز وجل تعبّد عباده المؤمنين بفريضة لقيام بالقسط والشهادة له فيما يكون بينهم من مظالم، فقال في محكم التنزيل وهو أصدق القائلين : (( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم )) ، وفي قوله سبحانه هذا تحذير ووعيد شديد لمن تجب عليه شهادة فيكتمها . ومما جاء في الذكر الحكيم أيضا قوله عز من قائل :
(( يا أيها الذين آمنوا كونوا فوّامين بالقسط شهداء لله ولوعلى أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا )).
ولقد جاء في كتب التفسير أن هذه الآية نزلت في قوم يدعون بني أبيرق، وكانوا فقراء ، وكان فيهم نفاق سطوا على طعام وسلاح ومتاع أحد الصحابة ليلا ، فشكا أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لاسترجاع سلاحه والتصدق عليهم بالطعام لفقرهم إلا أنهم أنكروا السرقة ، فلم يقض فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لانعدام البينة ، فأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا فيه حكم تعبّد به عباده المؤمنين إلى قيام الساعة ، وهو وجوب القيام بالقسط والشهادة له سبحانه في المظالم ليستتب العدل بين الناس ، وتستقيم حياتهم كما أراد سبحانه وتعالى.
ومما يثير الانتباه في هذا النص القرآني أن الله تعالى أمر الإنسان المؤمن سواء كان ذكرا أو أنثى بشهادة الحق دفعا للباطل والظلم بدءا بالشهادة على نفسه أولا، وتكون بالاعتراف والإقرار لذوي الحقوق سواء كانت هذه الحقوق مادية أو معنوية ثم الشهادة على أقرب المقربين آباء وأمهات وأقارب .
ومعلوم أن الله تعالى بدأ في هذه الآية الكريمة بأمر الشهادة على النفس لأن الإنسان تمنعه أنانيته وحبه لذاته من الشهادة على نفسه إن كان ظالما لغيره ، وهذا طبع فيه ، ثم تمنعه العاطفة التي تربطه بأقرب المقربين منه بالشهادة عليهم وهو يعلم علم اليقين أنهم قد وقع منهم الظلم والعدوان على غيرهم من أقارب أو أباعد .
ومعلوم أيضا أن مبعث الميل مع العواطف هو اتباع الهوى ،ذلك أن الإنسان يميل مع هواه فيكتم الشهادة المتعلقة بنفسه وقد اعتدى على غيره بقول أو فعل ، كما أنه يميل مع هواه فيكتم الشهادة المتعلقة بأقرب المقربين منه الوالدين والأقارب وقد اعتدى إما بعضهم على بعض أو اعتدوا على غيرهم بأقوال أو بأفعال ، فيشق عليه بدافع العاطفة والهوى أن يشهد فيهم شهادة حق ينصر بها مظلوما ليسترد حقه إن كان ماديا أو يسترد اعتباره إن تعلق الأمر بشيء معنوي.
وقد يميل الإنسان بدافع العاطفة والهوى مع والده الظالم لولدته أو العكس ، وقد يفعل ذلك انتصارا لإخوة قد ظلموا والديه أو يفعل ذلك انتصارا لأقارب على آخرين أو يفعل ذلك انتصارا لأقارب على أباعد أو العكس اتباعا لهواه .
ومن اتباع الهوى والميل مع العواطف أن يرق قلب الإنسان لفقير ظالم قد ظلم غنيا كما حصل مع الذين أنزل فيهم الله تعالى هذه الآية الكريمة ، وقد نبّه سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله جل شأنه : (( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما )) لأنه هو أولى بالخلق من بعضهم البعض وأرأف بهم حيث يستوي عنده الغني سواء كان غناه ماديا أو كان معنويا كسلطان أو جاه أو هما معا ، كما يستوي عنده الفقير سواء كان فقره ماديا أو كان معنويا أو هما معا، لأن الظلم قد يصدر منهما معا ولا يقتصر على قوي دون ضعيف أو غني دون فقير أو مشهور دون مغمور.
وبعد ذلك يحذر الله تعالى من الميل مع الهوى فيقول جل شأنه : (( وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا )) ،وقد جاء في كتب التفسير أن الليّ يكون بالألسنة التي قد تكذب أو تنكر أو تحرف شهادة الحق ، والإعراض يكون بالانصراف عنها وكتمانها ،وكل ذلك من إثم القلوب الذي نهى الله تعالى عنه وحذر منه لأنه سبحانه العليم الخبير بخائنة العيون وما تخفي الصدور ، وأنه يحاسب العباد على ذلك حسابا عسيرا يوم القيامة حيث لا ينفع اعتذار أو ندم .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو التنبيه إلى ما حذر الله تعالى منه من كتمان الشهادة الواجبة نصرة للمظلومين وإحقاقا للحق وإزهاقا للباطل خصوصا وأن الناس في زماننا هذا وقد أعرضوا عن كتاب الله تعالى وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا من رحم الله قد اعتادوا على الميل مع الأهواء، ولم يعد فيهم من يشهد على نفسه بالظلم والعدوان إن كان ظالما أو على الوالدين والأقربين والأصدقاء والجيران إن كانوا ظالمين أو على أصحاب السلطان إن كانوا ظالمين خوفا منهم أو تقربا وتزلفا إليهم أو على الأغنياء إن كانوا ظالمين طمعا فيما عندهم أو حتى الفقراء والضعفاء إن كانوا ظالمين ميلا مع العاطفة والهوى بدافع شفقة باطلة عليهم .
ولقد كانت الشهادة على الوالدين والأقربين عند السالف الصالح أمرا معتادا إلا أنها في عصور فساد التدين أو ضعفه كزماننا هذا أصبحت معطلة وحري بالقضاء ألا يعتد بها لما صار يلابسها من ليّ أو إعراض أو زور وبهتان .
وما أكثر المظلومين في هذا الزمان بسبب تعطيل فريضة القيام بالقسط والشهادة لله تعالى على الأنفس والوالدين والأقربين والأصدقاء والجيران والمعارف وذوي السلطان والجاه الذين يخشى جانبهم أو ذوي المال والثراء الذين يطمع فيما عندهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . ولا أحد يستحضر تحذير ووعيد الله عز وجل في محكم التنزيل أو تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول : " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار " .
وشأن من يقضي بين المسلمين وغيرهم إلى قيام الساعة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم بشر قد تنطلي عليهم حيل المتخاصمين حين يكون بعضهم ألحن بحجته من بعض، فيقضون لهم بنحو ما يسمعون ، وهم إنما يقتطعون لهم قطعا من النار.
اللهم إنا نبرأ إليك من تعطيل فريضة القيام بالقسط والشهادة لك سبحانك على النفس والوالدين والأقربين والأصدقاء والجيران والمعارف ، ونبرأ إليك سبحانك من تعطيلها خوفا من ذوي سلطان وجاه أو طمعا في ذوي ثراء أو تعاطفا في غير محله مع فقراء ومحاويج وهم ظالمون . اللهم اهدنا إلى صالح العمل والقول وجنبنا الظلم وأعنّا على ذلك ، وارزقنا الصبر إذا ما أوذينا بسبب شهادة حق لك سبحانك أو بسبب قيام بالقسط . اللهم إنا نعوذ بك من هوى النفس وعنادها حين تسمع النصح ولا تنتصح ، وتسمع الوعظ ولا تتعظ ، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه . اللهم وفقنا لرد المظالم إلى أصحابها قبل أن نلقاك، وأعنا على ذلك رحمة ورأفة بنا يا أرحم الراحمين ويا رب العالمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 947