(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)
من المعلوم أن عظمة قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رب العزة جل جلاله اقترنت بعظمة دينه سبحانه وتعالى ، ذلك أنه إذا ذكر في الذكر الحكيم دين الإسلام فإنه يذكر ذكرتفضيل وتعظيم ، ويكون ذلك تفضيلا وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي اختاره ربه سبحانه وتعالى لتبليغ رسالة هذا الدين العظيم للعالمين بعدما كان الرسل السابقون يقتصر تبليغه على أقوامهم .
ومن المعلوم أيضا أن عالمية الرسالة الخاتمة التي كلف بتبليغها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة قد أكسبها ذلك عظمة القدر لفضلها على العالمين ، كما أكسب مبلغها لهم نفس القدر من العظمة .
ومما جاء في كتاب الله عز وجل من تعظيم لقدر دين الإسلام مقترنا بتعظيم قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله سبحانه وتعالى :
(( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )) ، وقد وردت هذه الآية الكريمة في سياق الحديث عن أهل الكتاب من يهود ونصارى كانوا ينسبون لله الولد تعالى سبحانه عن ذلك علوا كبيرا ، ويتخذون أحبارهم ورهبانهم والمسيح بن مريم أربابا من دونه جل في علاه قاصدين بذلك عن عمد وسبق إصرار صرف الناس عما أمر به سبحانه وتعالى من توحيده دون اتخاذ شركاء أو أنداد له في الألوهية والربوبية .
وفي هذه الآية الكريمة يدحض سبحانه وتعالى ما ادعوه وما زعموه من شرك بالله تعالى ،وهي كما جاء في كتب التفسير بيان للآية التي قبلها، وهي قوله تعالى مخبرا عن المشركين من أهل الكتاب : (( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون )) ، وفيها أيضا إشارة إلى تعظيم قدر وشأن دين الإسلام متضمنا الإشارة إلى تعظيم قدر وشأن من أمر بتبليغه للناس كافة صلى الله عليه وسلم .
ولقد بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة طبيعة دين الإسلام ، كما بيّن وظيفته ، أما طبيعته فهي كونه دين الحق ، والحق هو نقيض الباطل ، وبالضدية تتمايز الأشياء كما يقال . وقد أطلق الله تعالى على دين الإسلام اسما من أسمائه الحسنى وهو الحق وقد ذكر أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى أنه هو الواجب بذاته المقابل للباطل الذي هو ممتنع بذاته، وأن الله عز وجل هو الحق المطلق الموجود بذاته أزلا وأبدا، ومنه يأخذ كل حق حقيقته .
ووصف الله عز وجل لدين الإسلام بالحق ينفي عنه ملابسة الباطل له مما يعتري غيره من الأديان سواء الباطل منها في أصل وجوده كالأديان الوثنية أو المحرّف الذي أصله حق كاليهودية والنصرانية حين اعتراهما التحريف . وأساس الحق في دين الإسلام هو التوحيد الذي يعني تخصيص الله عز وجل بالألوهية والربوبية ، وتنزيهه عن الشركاء والأنداد إذ لا يستقيم عقلا ولا منطقا أن يلحق ما هو باطل بما هو حق .
وما اختار الله تعالى لدين الإسلام أرض العرب منطلقا له ، واختار تبليغه لهم أولا قبل أن يبلّغ للعالمين إلا للباطل الذي كانوا عليه وهم يعبدون الأصنام ويدينون لها ، وكانوا بذلك يعطّلون عقولهم التي من المفروض أن تنبههم إلى ما كانوا فيه من ضلال باطل ، وهم بذلك نموذج معبر عن كل الوثنيين في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة . ولم يختر سبحانه وتعالى غيرهم من أهل الكتاب لتبليغه للعالمين لأنهم استأمنهم من قبل عليه، فخانوا الأمانة بإلحاق الباطل به وهو الحق ، حيث انحرفوا عن التوحيد إلى الشرك بنسبة الولد لله تعالى علوا كبيرا عما يصفون ، وباتخاذ الأحبار والرهبان والمسيح بن مريم أربابا من دونه، وقد تعمدوا بذلك تعطيل عقوله كغيرهم من الوثنيين وكانت قد استنارت بنور الحق الذي أنزله الله تعالى عليهم في التوراة والإنجيل ، فعادوا إلى الشرك بعد التوحيد .
وأما وظيفة الإسلام كما جاء في الآية الكريمة ، فهي الهداية ، وتحصل للناس بتشغيل عقولهم التشغيل الصحيح كما صممها لذلك الخالق سبحانه وتعالى ، وكل تعطيل لها يوقع حتما في أوهام الباطل . وما اهتدى أحد من الخلق إلى توحيد الله عز وجل وتنزيهه عن الأنداد والشركاء إلا وكان مشغلا لعقله التشغيل الصحيح الموصل إلى الحق ، والناكب عن الباطل. ولقد أخبر الله عز وجل أن إراداته اقتضت أن يكون دين الإسلام الذي جاء في الرسالة العالمية الخاتمة المنزلة على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ظاهرا على كل الأديان ، وإظهاره عليها معناه التفضيل، والنصر، والتأييد ،والتمكين لأن معجزته هي القرآن الكريم الذي يخاطب العقول المشغلة التشغيل الصحيح والصائب ، والتي تدرك ما فيه من حق لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه .ومعلوم أنه ما اطلع إنسان في كل عصر أو مصر على القرآن الكريم خالي الذهن من أفكار مسبقة عنه تشوش على عقله إلا وهداه إلى الحق .
وإظهار الله عز وجل لدين الإسلام على غيره مما يعتقد أنها أديان ، وهي باطلة شيء يكرهه أصحاب هذه الأديان ، وهو سبب كرههم للإسلام ، وسبب معاداته والكيد له ولأتباعه منذ أول وهلة ظهر فيها إلى هذا الزمان وما بعده إلى قيام الساعة ، هو دعوته إلى تحرير العقول من قيود الباطل وما أكثرها .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو استكمال الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمناسبة ذكرى مولده الشريف ، وهو حلقة من الحلقات السابقة المنوهة بقدره العظيم قد دعا إليه ما يروجه بعضهم اليوم من أحاديث باطلة ومردودة عليهم تصب كلها إما بشكل صريح أحيانا و بشكل ضمني أخرى تروم التشكيك في أمر إظهار الله عز وجل لدين الإسلام على الدين كله من خلال إما نفيه نفيا قاطعا أو اعتباره في نفس درجة باقي الأديان على ما فيها من باطل صارخ ، وهو ما يعد تكذيبا واضحا لما جاء في كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه إذ كيف يمكن المساواة بين أديان لا غبار على باطل الشرك فيها وبين الإسلام وهو الدين الحق ؟ وذلك ما لا تقبله العقول السليمة التي تشغل بشكل صحيح كما صممها لذلك خالقها سبحانه وتعالى ، وكيف يمكنها أن تسوي التي تجعل التوحيد خالصا له جل في علاه ، مع تلك التي ينسب له الولد وتجعل له أندادا من البشر ؟
ولا بد من التنبيه في هذا الحديث إلى أن إظهار الله عز وجل دين الإسلام على الدين كله لا يمكن بتاتا أن يسمح بالانحراف به عما جاء في كتاب الله عز وجل إلى أي نوع أو شكل من أنواع أو أشكال الباطل كما يحصل ذلك عند بعض المحسوبين على الإسلام الواقعين في باطل الشرك من قبيل ما وقع فيه أهل الكتاب ، وذلك إما عن جهل سببه تعطيل عقولهم أو عن كيد يراد به النيل من دين الله عز وجل ، ولهذا ذيّل الله عز وجل في الآيتين السابقتين وهو يتحدث عن إظهار دين الإسلام على غيره بقوله مرة : (( ولو كره الكافرون )) ومرة بقوله : (( ولو كره المشركون )) ، ومعلوم أن كراهية إظها ر الإسلام على غيره هي معيار به يحكم على كفر الكافرين وشرك والمشركين ، كما وصفهم بذلك الله عز وجل . وأشد الناس عداوة لدين الإسلام في كل زمان هم أوغلهم في الكفر والشرك ، وأشدهم خوفا من تشغيل الناس عقولهم التي تفضي بهم إلى الحق ، وتحول بينهم وبين الباطل بكل أشكاله وأنواعه .
ومن كراهية إظهار الله عز وجل دين الإسلام ، كراهية من بعث به عليه الصلاة والسلام ليبلغه للعالمين ، وهو محرر عقولهم من قيود الباطل . ولا يكره هذا الذي بعث معلما للبشرية إلا من يكره تحرير عقول البشر من أوهام الباطل.
اللهم إنا نسألك الاهتداء بهدي الإسلام ، ونعوذ بك من كل ضلال ، ونسألك سلامة عقولنا من أوهام الباطل ، ونعوذ بك أن نجعل دينك الذي ارتضيته لنا وأظهرته على الدين كله كباقي ما يزعمه الضالون من باطل يسوي بينه وبين غيره مما هو ضلال مبين ، كما يزعمون أنه بين دين الحق ، وأديان الباطل نسبا وعلاقة وقرابة وهم بذلك يفترون الكذب على الله عز وجل ، ويستخفون بعقول السذج من الناس لتضليلهم ، وصرفهم عن الحق إلى الباطل .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آلله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 954