( والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان )
من المعلوم أن من أسماء الله عز وجل الحسنى وصفاته المثلى اسم، أوصفة " العدل" ومعناه " العادل "، وهو الذي يستحيل في حق خلقه أو فعله الجور والظلم أو الخلل والعيب بزيادة أو نقصان . ويتجلى عدله سبحانه وتعالى في كل أفعاله وفي كل ما خلق من مخلوقات ، و في كل ما وضع أو جعل من قوانين ،وكيفيات ، وهيئات ، وأحوال ، ومقادير ، وحظوظ ... . وإدراك عدله سبحانه وتعالى يكون عن طريق التأمل في الكيفيات التي خلق عليها مختلف المخلوقات حية وجامدة ، ظاهرة ، وخفية ...، وهي كيفيات تجسد عدله سبحانه وتعالى ، وتثبت له صفة العدل . ومما يدل على هذه الكيفيات المجسدة لعدله قوله تعالى في محكم التنزيل : (( الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير )). وإذا ما كان التفاوت، وهو خلل يحصل بزيادة أو بنقصان منعدما في خلق السماوات وهي أكبر و أعظم المخلوقات لعظمة سعتها ، ولعظمة ما تحويه من أجرام ، ولما فيها من مخلوقات علمها عنده سبحانه وتعالى ، فإن التفاوت منعدم أيضا فيما صغر ودق من مخلوقات، لأن ذلك يستحيل مع وجود عدله الله سبحانه وتعالى .
ومما أمر به الله عز وجل الخلق التزام العدل في كل أفعالهم وأقوالهم ، وهو أمر يتكرر في كتابه الكريم ، و الذي نورد منه ما جاء في سورة الرحمان ، وهو قوله عز من قائل : (( والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان )) . إن في ذكره سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة للسماء إشارة إلى قدرته على الخلق العظيم لعظمته جل في علاه ، وعلى العدل في خلقه بحيث لا يوجد تفاوت فيما خلق من شأنه أن يترتب عنه خلل بزيادة أو بنقصان . ويشير بعض المفسرين إلى أن في رفعه سبحانه السماء تشريفا لها ، ولمن فيها من ملائكة كرام صلواته وسلامه عليه أجمعين ، كما أن ذكره سبحانه وضع الميزان بعد ذكر رفع السماء تشريفا له ، والميزان كما جاء في كتب التفسير لا تقتصر دلالته على آلة الوزن بل يدل على العدل أيضا . وهذا العدل الذي وضعه الله تعالى للناس هو قوام استقامة حياته في الدنيا ، وفوزهم في الآخرة ، لهذا أمرهم بالتزامه من خلال نهيهم عن الطغيان فيه، وهو الجور ، وأمرهم بإقامته ، كما نهاهم عن إخساره . ولقد جاء التعبير عن العدل في الآية الكريمة مرة بالقسط و أخرى بالميزان .
ولا يمكن فهم هذا النهي الإلهي بتجنب الطغيان في الميزان وإخساره ، والأمر بإقامة القسط فيه أنه يخص الموزون والمكيل دون غيرهما من الأمور سواء كانت أفعالا أم أقوالا ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (( وإذا قلتم فاعدلوا )) ، فهذا ميزان خاص بالقول كالميزان الخاص بالكيل والوزن،وهو ما يدل على أن استعمال لفظ الميزان في القرآن الكريم من دلالته العدل في كل الأمور أفعالا وأقوالا ، لهذا قال ابن خلدون رحمه الله تعالى قولته الشهيرة : " العدل أساس العمران " ، وهو عمران الدنيا وعمران الآخرة ، كما أن الجور خراب العمران في الدارين معا .
وإن شئنا محاكاة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه عن اللين لقلنا ما كان العدل في شيء إلا زانه ، وما نزع من شيء إلا شانه، والذي يزينه استقامته كما يجب ،كما أن الذي يشينه انحرافه عنها.
ومما يجعل مختلف المعاملات بين الناس سوية هو سيادة العدل فيها بحيث لا يكون طغيان، ولا إخسار في الميزان بل يقام الوزن فيها بالقسط . ومن المعاملات ما هو مادي ، ومنها ما هو معنوي إلا أن الذي يتبادر إلى الأذهان أن المخصوص بالميزان هو المادي فقط دون المعنوي ، وهو قصور في إدراك مقصود الله عز وجل بإقامة الوزن بالقسط، وعدم الطغيان أو الإخسار في الميزان .
ومعلوم أن المعاملات المادية من بيع وشراء ... وغيرهما من المعاملات المختلفة تخضع كلها للوزن المقسط بلا طغيان أو إخسار، والذي يعبر عنهما بالتطفيف الذي يكون إما زيادة، وهو حينئذ طغيان كما يكون نقصانا، وهو حينئذ إخسارا مصداقا لقوله تعالى : (( ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون )).
مناسبة حديث هذه الجمعة هو ما يحصل في بلادنا يوميا من ارتفاع في أسعار بعض المواد الاستهلاكية ، ذلك أنه لا يسأل أحد عن ثمن بضاعة ما إلا قيل له قد ارتفع ثمنها . وأمام صمت المسؤولين بخصوص موجة الغلاء ، فإن المستهلك لم يعد يميز بين الزيادة المبررة والمشروعة والمعلن عنها رسميا ، والزيادة التي دون ذلك، علما بأن البعض ربما استغلوا الظرف ليزيدوا في أسعار بعض المواد لم تحصل فيها زيادة ، وإنما تحينوا الفرصة للزيادة فيها بذريعة العبارة التي صارت متداولة اليوم وهي أن كل شيء قد زاد سعره أو بالأحرى زيد فيه.
ومن الطغيان في الميزان ، وإخساره الزيادة في أسعار المواد دون وجه حق ، وهو جور وظلم نهى عنه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ذلك أن الذي يزيد في سعر مادة من المواد دون وجه حق، هو ومن ينقص من وزنها أو يزيد فيه سيّان ، فعلى سبيل المثال من يزيد في ثمن الكيلو غرام من الدقيق كمن ينقص من وزنه حيث يكون من اشتراه بزيادة في سعره بمنزلة من لم يحصل على وزنه الحقيقي ، وهذا تطفيف نهى الله عز وجل عنه ، وتوعد من يقترفه بالويل .
ولهذا يجب على الجهات المسؤولة عن تحديد أسعار المواد أن تخرج على المستهلكين ببلاغات ونشرات يوميا للكشف عنها أولا ، ولتبرير الزيادة فيها تبريرا مقنعا ، ولا يمكن أن ترد كل زيادة إلى ارتفاع أسعار الطاقة ومصاريف النقل دون تحديد ذلك بدقة مع بيان مقدار الزيادة في أنواع المنقولات ،والتي لن تكون بالضرورة واحدة بجميع أنواعها ، علما بأن انخفاض أسعار الطاقة لا يترتب عنه عادة انخفاض أسعار المواد بل تظل على حالها بينما تزيد دائما بزيادة أسعار الطاقة .
إن الله عز وجل أمر بالقسط في الوزن ، ونهى عن الطغيان في الميزان ،والإخسار فيه ، وهو أمر بالعدل في كل المعاملات التجارية ، ونهي عن الجور فيها بكل أنواعه ، ومن الجور الزيادة في أسعار بعض المواد دون وجه حق ، لهذا يتعين على الباعة أن يلتزموا أمر الله عز وجل ، وأن ينتهوا عما نهى عنه في ممارساتهم ، وحسبهم الخمس الموبقات التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وتعوذ بالله منها ،والتي منها قوله: " ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان " . ومعلوم أن الزيادة في الأسعار دون وجه حق عند التأمل هي في حكم نقص المكيال والميزان .
اللهم رد بنا إليك ردك الجميل اللطيف وإلى صراطك المستقيم ، وألهما العدل في الأقوال والأفعال ، ونعوذ بك من الأخذ بالسنين، ومن شدة المؤونة ، ومن جور السلطان بسبب من يطففون أو يخسرون المكيال والميزان ، اللهم لا تؤاخذنا بما يفعلون ، ونجنا مما يفعلون ، واهدنا إلى سواء السبيل.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 963