( كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة ثم إلينا ترجعون )
من المعلوم أن إرادة الله عز وجل اقتضت ابتلاء آدم وحواء عليهما السلام وهما في الجنة بشجرة نهاهما سبحانه وتعالى عن الأكل منها، لكنه لم يجد لهما عزما، ومع ذلك تداركهما سبحانه وتعالى بلطفه ،وشملهما بعفوه ، وأسكنهما الأرض بعد ذلك ، وكتب على ذريتهما في الحياة الدنيا ابتلاء يعقبه حساب بعد ذلك في الحياة الأخرى . ولقد تناول القرآن الكريم هذا الابتلاء في أكثر من موضع ، نذكر منه تمثيلا لا حصرا قوله تعالى : (( كلا نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة ثم إلينا ترجعون)) ، ففي هذه الآية الكريمة خطاب موجه إلى بني آدم تضمن الغاية من خلقهم وهي ابتلاؤهم في الحياة الدنيا ثم محاسبتهم على ذلك في الآخرة . ولقد ذكر الابتلاء هذا الخطاب الإلهي ، فذكر ما بين ذكر الموت، وذكر البعث.
وذكر الموت دليل على زوال الحياة الدنيا ونهايتها كما قضى الله عز وجل وقد جعلها للابتلاء ، وذكر الرجوع إليه سبحانه وتعالى دليل على البعث بعد الموت ، وعلى بداية حياة أخرى لا زوال لها ، وقد جعلها للجزاء.
وقول الله تعالى (( كل نفس ذائقة الموت )) يستوجب وقفة لغوية عند ألفاظه ، أما لفظة " كل " فهي اسم موضوع إما لاستغراق أفراد المتعدد أو لعموم أجزاء الواحد ، ويكون مضافا لفظا أو تقديرا ، وبإضافة إلى النفس يكون الموت قدرا ومصيرا لاحقا بجميع بني آدم . وأما لفظة " نفس "، فلها عدة دلالات حيث تطلق على الروح ، فيقال : " فلان خرجت نفسه إذا فاضت روحه " ، وقد تطلق على على الجسد ، فيقال : " فلان عظيم النفس " ،ويراد بذلك أنه قوي الجسد ، وقد تطلق على الدم ، فيقال : " فلان دفق نفسه " أي دمه ، وقد تطلق على العين ، فيقال : " فلان أصابته نفس " أي عين ، وقد تطلق على أمور معنوية كالعظمة، والهمة، والعزة ،والأنفة ... أما لفظة " ذائقة " ،فتدل على الذوق ،وهو على وجه الحقيقة اختبار الطعم بحاسة بجارحة اللسان ، أما مجازا كما هو الحال في هذه الآية الكريمة فتدل على المقاساة والمكابدة من جراء ألم أو عذاب . وأما لفظة " موت " ، فتدل على زوال الحياة بمفارقة الروح للجسد ، وهي لا تعني الفناء الذي لا رجعة بعده إلى الحياة. ويوصف الموت قتلا بالموت الأحمر، والموت شنقا بالأسود ، وما عدا ذلك يوصف بالموت الأبيض، وتتعدد أسبابه، وهو واحد كما يقال .
أما قوله تعالى : (( ونبلوكم بالشر والخير فتنة )) ، فيدل على الغاية من وجود بني آدم وهي اختبارهم أو امتحانهم في الحياة الدنيا ، كما أنه يدل على طبيعة هذا الاختبار الذي قوامه إخضاع بني آدم لثنائية الشر والخير حيث يقتضي الفوز فيه صبرا على المصائب ، وشكرا على النعم كما جاء في بعض كتب التفسير، وبذلك تتحقق طاعة بني آدم لله عز وجل وعبادته على الوجه الذي يرضاه لهم. ولا مناص لكل فرد في هذه الحياة الدنيا من أن يخضع لابتلاء تتناوب عليه فيه نعم موجبة للشكر، ومصائب مقتضية للصبر . ومعلوم أن الإنسان بطبعه محب للخير، كاره للشر كما وصفه الله عز وجل في قوله تعالى : (( لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط )) ، وهو مع ذلك إذا ما استغنى طغى لقوله تعالى : (( إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى )) ،الشيء الذي يترتب عنه فشله في ابتلائه حين يرجع إلى ربه يوم الحساب بعد الرحيل عن الحياة الدنيا الفانية إلى الآخرى الخالدة .
وقد يخطىء الإنسان في تقدير الخير والشر ، فيكره شيئا وهو خير له ، كما أنه يحب آخر وهو شر له كما ذكر الله عز وجل ذلك في محكم التنزيل ، لهذا يقال رب نقمة في طيها نعمة، والعكس يصح أيضا .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين إلى طبيعة الابتلاء الذي يخضعون له في هذه الحياة الدنيا خصوصا ونحن نعيش في زمن كثرت مصائبه ، ونمر بظرف بالغ الحساسية اجتمع فيه علينا وباء طال مكثه بيننا ، وعانينا منه عنتا كبيرا ستلازمنا آثاره زمنا طويلا ، وانحباس المطر عنا ، وغلاء المعيشة...أمور أخرى لا داعي لذكرها الآن ، وكاد اليأس أن ينال منا جميعا . والمطلوب من وراء ابتلائنا بكل هذا الذي حل بنا هو الصبر على ما نحن فيه، لكن مع الثبات على الدين ، واليقين بأن الله عز وجل إنما ابتلانا بما نحن فيه ليعلم الثابت منا على صراطه المستقيم من الناكب عنه . وعلينا أن نتذكر جيدا أن الابتلاء بالرخاء ربما كان أكثر خطورة علينا من الابتلاء بالشدة ، ذلك أن الرخاء ربما أنسانا واجب الشكر المفروض علينا ، وحملنا على الطغيان وقد استغنينا به ، وكان ذلك سببا في زواله ، وحلول الشدة محله ، وهنا يصدق قوله تعالى : (( عسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم )) . ورب ابتلاء بالشدة يكون سببا في الإنابة والرجوع إلى صراط الله المستقيم ، وهنا يصدق قوله تعالى : (( عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم )) .
وشكر الله عز وجل في الرخاء ، والصبر على الشدة مؤشران على رسوخ الإيمان في القلب ، وهو ما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجب من أمر هذا الرسوخ في الحديث الذي قال فيه : " عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " ، وهذا يدل على أن الشكر في السراء والصبر في الضراء ممارسة إيمانية مثيرة للعجب حقا ، وهي استقامة على صراط الله المستقيم ، وهو الصراط المفضي إلى الخلد في جنة النعيم ، وفي المقابل يكون الطغيان في السراء ، والجزع في الضراء ممارسة ضلالية ، وهي نكوب عن صراط الله المستقيم ، وهو نكوب مفضي لا محالة إلى الهاوية ، والخلد في جحيم مقيم .
اللهم إنا نسألك الثبات على صراطك المستقيم ، ونعوذ بك من النكوب عنه . اللهم ألهما في السراء الشكر الكثير الموافي لنعمك التي لا يحصيها عد ، وألهمنا الصبر في الضراء ، وقنا العثرات والزلات ، وقوّ عزائمنا إذا ما زلت بنا الأقدام ، واغفر، واصفح يا رءوف يا رحيم .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلّم وبارك على سيّدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 970