( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذّكر إلا أولو الألباب )
من المعلوم أنه من أسماء الله عز وجل الحسنى وصفاته المثلى التي اتصف بها جل جلاله صفة " الحكيم " ، والحكمة كما قال الأمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه : " المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى " : " هي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم " ، ومثل قوله ما في جاء تفسير التحرير والتنوير للعلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى : " الحكمة إتقان العلم وإجراء الفعل وفقه " .وبناء على هذين التعريفين للحكمة ، فإن أفعال الله تعالى كلها أجريت وفق علمه . ولقد ذكر ابن عاشور أيضا أن الحكمة مشتقة من الحكم ـ بضم الحاء وتسكين الكاف ـ ، وهو الكف والمنع ، لهذا فالحكمة تمنع صاحبها من الوقوع في الضلال ،كما ذكر أيضا أن الحديدة التي تربط باللجام ، وتوضع في فم الفرس تسمى " الحكمة " ـ بفتح الحاء والكاف والميم ـ وهي تمنعه من الجموح. ويقول ابن منظور :" يقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها حكيم"
ولقد وردت كلمة " حكمة " في أكثر من موضع من كتاب الله عز وجل تفيد شيئا من الدلالة الآنفة الذكر وزيادة ، ونذكر من ذلك قوله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم : (( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ))، وقوله له أيضا : (( ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة )). ومما خاطب به سبحانه وتعالى المؤمنين من عباده قوله : (( واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به )) ، وقوله تعالى لهم أيضا : ((كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آيات الله ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون )) . و الملاحظ أن دلالة الحكمة في هذه الآيات وغيرها هي مجموع ما أوحى به الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم . والحكمة حسب هذه الآيات منزلة من عند الله عز وجل ، وهي علم من عنده سبحانه وتعالى ضمّنه كتابه الذي أنزله ليتلى، وهي تتعلّم ، ويوعظ بها . ولقد جعل الله تعالى في الحكمة خيرا كثيرا لمن يؤتيه إياها مصداقا لقوله عز من قائل : (( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذّكر إلا أولى الألباب )) ، فإذا ما تأملنا هذه الآية الكريمة نلاحظ أن الله عز وجل اشترط فيمن يدركون هذا الخير الكثير الذي جعله سبحانه وتعالى في الحكمة أن يكونوا من أولي الألباب التي هي وسيلتهم لتحصيل العلوم وإتقانها وإجراء الأفعال وفقها حسب تعبير العلامة الطاهر بن عاشور ، أو هي وسيلتهم لتحصيل أفضل العلوم لمعرفة أفضل الأشياء حسب تعبير الإمام الغزالي .
والذين يؤتيهم الله عز وجل الحكمة، يكون السداد والتوفيق حتما حليفهم فيما يقولون، وفيما يفعلون ، وهم بذلك أبعد ما يكونون عن الضلال ، وعن النكوب عن الصراط المستقيم .
ومعلوم أن ما عانت منه البشرية منذ فجر التاريخ ، وما زالت تعاني اليوم سببه غياب الحكمة والافتقار إلى الخيرها الكثير الذي أودعه الله سبحانه وتعالى فيها ، وهو سبب تتخبطها فيه من معضلات لا حل ولا خلاص منها ، وسبب ما تعاني منه من صراعات ، وحروب ، ومآس لا حصر لها .
ولقد سبق حديث الله عز وجل عن الحكمة في الآية الأنفة الذكر قوله تعالى : (( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم )) ، وهو ما يعني تمكن الشيطان من الإنسان واستحواذه عليه حين يتنكب سبيل الحكمة فيكون بذلك عرضة لعبثه بحيث يعطل ملكة العقل عنده ،فيتعطل بذلك العلم عنده ، ويحل محله الجهل ، ومن ثم تفسد أعماله ، ويضل عن سواء السبيل ، ويشقى بذلك شقاء الدنيا والآخرة .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين إلى أن ما يتخبط فيه العالم اليوم من مشاكل عويصة ، وما يجري فيه من صراعات وحروب دامية مدمرة للإنسان والعمران في شتى أصقاع المعمور ، وآخرها الحرب الجارية الآن ، إنما سببه غياب الحكمة ، واستحواذ الشيطان على الناس كما جاء في قوله تعالى، وهل يوجد فقر يعدهم به أكبر من تزيين الحروب حيث يرونها ربحا وهي خسران مبين بما تحدثه من خراب ودمار وموت ومجاعة وبؤس؟ ، وهل توجد فحشاء أشنع مما يأمرهم به من سفك للدماء وتدمير للإنسان والعمران ؟ . وإن ساسة هذا العالم اليوم يركبون التهور ويتصرفون بجهالة ودون حكمة ، وبلا حكمة تلجم جموحهم ، وتمنعهم من الطغيان، والاستبداد ، والعدوان.وإن ما يصرفونه اليوم على الأسلحة لخوض الحروب العبثية من مبالغ مالية خيالية كفيل بتوفير الحياة الكريمة للبشرية معاشا ، وتطبيبا ، وتعليما، ورفاهية ، ورخاء، ولكن الشيطان ركبهم، فحولوا حياة هذه البشرية إلى موت ، وبؤس، وخوف، وجهل ، ومرض ، وتشريد ...
وأمام هذا الوضع المزري يجدر بالبشرية أن تلتمس الحكمة فيما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في الرسالة الخاتمة إليها ، وقد ضمّنها من الحكمة ، ما يجعلها تنعم بالعيش الكريم في عاجلها وأجلها .
اللهم علمنا الحكمة ، وأنطقنا بها فضلا منك ونعمة ، ووفقنا لصالح الأعمال .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 972