( وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما )
من المعلوم أنه قد تكرر كثيرا وصف يوم القيامة في كتاب الله عز وجل لعدة أسباب ،أولها تأكيد حقيقة هذا اليوم الذي ينكره المنكرون من الكافرين والمشركين ، ويؤمن به المؤمنون، وثانيها تحذير من يصدقون به منه لما فيه من هول شديد ، ولما يليه بعد ذلك من حساب عسير، الشيء الذي يجعلهم يحسبون له ألف حساب ، فيراجعون أنفسهم كلما مر بهم ذكر هذا اليوم وهم يتلون كتاب الله عز وجل أو وهم ينصتون إلى تلاوته .
ومن الآيات التي ورد فيها ذكر هذا اليوم العظيم قوله تعالى في سورة طه :
(( يومئذ يتّبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمان فلا تسمع إلا همسا يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ومن يعمل من الصالحات فلا يخاف ظلما ولا هضما )).
ولقد ورد في هذه الآيات الكريمة ذكر لحظة البعث والنشور حيث ينادى على الخليقة، فتقوم لرب العالمين ، وتدعى إلى حيث تجمع جمعا وتحاسب ، فتستجيب مضطرة خاضعة للدعوة خلاف ما كانت عليه في الحياة الدنيا من انحراف واعوجاج عن دعوة الدعاة والمنذرين من رسل وأنبياء كرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وممن ورثوا عنهم هذه الدعوة ، لأن يوم القيامة يوم تجبر فيه الخليقة على الانقياد إلى حيث يريد الخالق سبحانه وتعالى ، ولا خيار لها وما ينبغي لها أن ترفض هذا الانقياد وما تستطيع . ومن هول يوم القيامة والخليقة كلها قد بعثت وعددها لا يحصيه إلا خالقها جل وعلا أنها لا تجرؤ على رفع أصواتها ،علما بأن انحشارها بذلك العدد الهائل من المفروض أن تصاحبه جلبة وضوضاء إلا أن العكس هو الحاصل حيث تضطر كلها إلى الهمس من شدة الهول والخوف من الجليل سبحانه وتعالى . ومن كرم الله تعالى أنه جعل صفة الرحمة تعقب مشهد خشوع الأصوات له مع أنه لو أراد لذكر صفة من صفاته التي تفيد قوته وشدة بأسه إلا أنه جل في علاه آثر صفة الرحمة في هذا السياق رأفة بالخليقة ، وهو الذي وسعت رحمته كل شيء ، ولا يجاوز شيء . ولقد أعقب ذكر همس الخليقة يومئذ وهو من مهابة الخالق سبحانه وتعالى ذكر إحجامها عن الجرأة بين يديه على حديث الشفاعة الذي لا سمح به تبارك وتعالى إلا لمن يرضاهم من الشفعاء ، ويقبله منهم تكريما لهم ، وهو أعظم تكريم خصوصا والخليقة في هول ورعب شديدين بينما الشفعاء في حالة أمن واطمئنان وقد رضيهم الله تعالى شفعاء وقبل منهم شفاعتهم لعلمه بهم وبالخليقة مما لا علم لها به مما أخفاه واستأثر بعلمه جل جلاله . ويأتي بعد ذلك الحديث عن مصاحبة اتباع الخليقة الداعي، وهمسها عناء وجوهها لخالقها ،وهو عبارة عن ذلة كذلة العاني أو الأسير حين يؤسر ، وقد اختار الله تعالى بعد ذكر هذا الخضوع ذكر صفتين من صفاته الحسنى هما صفة الحي ، وحياته سبحانه وتعالى لا بداية ولا نهاية لها، وصفة القيوم وهو كامل القيام بالخليقة لا يفوته شيء من أمر تدبير شؤونها ورعايتها لحظة بلحظة بعين لا تأخذه سنة ولا نوم، وبعلم لا يخفى عنه خفي ولا جلي .
وبعد الاستجابة للداعي ، وقد اختلف المفسرون في أمره فقال بعضهم هو الملك إسرافيل عليه السلام ، وقال آخرون هم رسل وأنبياء الله صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، وأيا ما كان هذا الداعي أو هؤلاء الدعاة، فأمر استجابة الخليقة لهم واحد ، وهمسها وعناءها للحي القيوم لا مناص لها منه . وبعد ذلك يأتي التمييز بين صنفين من الخليقة صنف حملة الظلم وساء يومئذ حملهم ، وصنف عاملي الصالحات وحسن سعيهم .
والذي يعنينا في هذا حديث هذه الجمعة تحديدا هم حملة الظلم يوم القيامة .
ومعلوم أن الظلم هو جور واعتداء أو تجاوز يكون عن طريق وضع الأمور في غير ما أراد لها الخالق سبحانه وتعالى بحيث يختل وضعها السليم والصحيح ، ويصير إلى فساد وانحراف وتغيير بعد صلاحها .
ولمعرفة حقيقة الظلم لا بد من استحضار براءة الله تعالى منه حيث قال : (( وما الله بظلاّم للعبيد )) ، وفي هذا نفي قاطع لحصول ظلم منه سبحانه وتعالى ، وهو مستحيل في حقه ، لأنه لم يخلق الكون وما وفيه ومن فيه عبثا بل وضع كل ما خلق حيث يجب أن يكون بعلمه ،وخبرته ،وقدرته ،وحكمته ، لهذا ينتفي عنه سبحانه أن يجعل الأمور أو الأشياء في غير ما يجب أن تكون عليه .
ومع انتفاء الظلم عن الذات الإلهية ، فإنه طبيعة متأصلة في البشر لقوله تعالى : (( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا )) . فمن جهل البشر وظلمه تكون منه الجرأة على حمل أمانة فوق ما تطيق قوته وقدرته ، وهي أمانة جسيمة أشفقت منها مخلوقات في منتهى العظمة، والتي لم تغرها عظمتها بالجرأة على حملها بينما يغر البشر جهلهم وضعفهم على الجرأة على حملها .
والظلم المقترف من طرف البشر إنما هو عند التأمل وضع الأمور في غير ما أراد لها الله عز وجل ، وهو إخلال بطبيعتها التي أوجدها الله تعالى عليها سواء كانت من الماديات أو من المعنويات . وأول مخلوق وقع في الظلم هو إبليس اللعين الذي أبدل ما أراده منه خالقه سبحانه وتعالى من طاعة معصية حيث رفض السجود المأمور به لآدم عليه السلام بعد خلقه وتسويته والنفخ فيه من روح الله تعاللى . ولقد حرض إبليس اللعين آدم وزوجه على الظلم حسدا من عند نفسه حين أمرهما بمخالفة أمر ربهما لهما بالامتناع عن الاقتراب من الشجرة الممنوعة . ومع أن مجرد الاقتراب منها يكون ظلما ،فأكبر منه الأكل منها .
ولقد مضى إبليس اللعين كدأبه دائما وقد أقسم بعزة الله تعالى على تحريض بني آدم على الظلم بكل أشكاله وأنواعه حسدا من عند نفسه بعدما طرد بسبب ظلمه من رحمة الله عز وجل ، وقد توعده بعذاب مهين في جهنم وبئس المصير .
ولا يمكن أن ينجو من الوقوع في الظلم إلا من نجاه الله تعالى رحمة وفضلا وجودا ومنة منه . ولقد ذكر الله تعالى أعظم الظلم الذي يقع من الإنسان وهو الشرك أو جعل الأنداد له ممن أو مما خلق من مخلوقات . وحقيقة قبح ظلم الإشراك بالله تعالى أنه عبارة عن نسبة العبودية والربوبية لغير من هو أحق بهما سبحانه وتعالى ، وهذا ظلم عظيم وشنيع باعتبار نسبهما لغير لله تعالى ، وقد اختص واستأثر بهما .
و لقد ورد في القرآن الكريم ذكر بعض ما وقع من صفوة خلق الله تعالى من رسله وأنبيائه الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين مما نربأ أن نسميه ظلما كظلم غير المعصومين أو ننسبه إليهم وقد عصمهم الله تعالى بل نقول هو عدم علمهم بحكم الله تعالى التي أخفاها و استأثر بعلمها من قبيل زلة أكل آدم من الشجرة أو من قبيل سؤال نوح عليه السلام ربه ما لا ينبغي أن يسأله بقوله (( رب إن ابني من أهلها )) ، وقد نهاه الله عن ذلك أو من قبيل ذهاب نبي الله يونس عليه السلام مغاضبا قبل إنهاء المهمة التي وكل بها في قومه، وهو لم يؤمر بذلك ... إلى غير ذلك مما استغفر الرسل والأنبياء الكرام ربهم المغفرة منه مما بدر منهم دون أن يكون قصدهم تعمد معصية خالقهم .
وحسب بني آدم ظلما ألا يستغفروا الله تعالى مما اقترفوا من ظلم ، وذلك لقوله تعالى بعد سرد بعض الممنوعات والمحرمات في سورة الحجرات والنهي عنها من أفعال و أقوال:(( ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون )) .
وكثير هو ظلم العباد، وهو متعدد ويأخذ أشكال مختلفة تتراوح بين ظلم الكفر والشرك وبين ظلم العصيان واقتراف الآثام في الأقوال والأفعال إلى ما هو أدنى من ذلك ، وإن كانت صفة الظلم لا تنفك عنه مهما قل شأنه أو استصغر . وقد يغفل كثير من الناس عن كثير من أنواع الظلم مع أن الله تعالى قد وصف حامل الظلم يوم القيامة بالخيبة والخسران، وهما في نهاية المطاف خسارة السعادة الأبدية والمقام المحمود الأبدي في جنة النعيم ، ونيل العقاب الشديد في المقام المذموم والأبدي في الجحيم .
حديث هذه الجمعة اقتضته ضرورة تنبيه المؤمنين إلى ما قد يحصل منهم من استخفاف بأنواع من الظلم لا يلقنون لها بالا ،وهي شر ووبال عليهم .
ومعلوم أن كل من استرعي رعية أو استودع أمانة أو قلد منصبا أو كلف بمهمة ، ولم يقم بواجبه على الوجه المطلوب منه فإنه يكون قد وقع في الظلم ، وهو حامله لا محالة يوم القيامة، وساء له يومئذ حملا . ولهذا يجدر بكل مؤمن ومؤمنة ألا يستخف بمسؤولياته مهما كان نوعها اتقاء الوقوع في الظلم واتقاء حمله وتقلده يوم القيامة . ولقد ذكر الله تعالى على سبيل التذكير أن من يغلل يأتي بما غل يوم القيامة مهما كان نوع الغلول أوالمغلول وإن كان مجرد قلم حبر أو ورقة أو ما دونهما مما لا حق للغالّ فيه . وعلى هذا تقاس كل أنواع الغلول التي تغفل علما بأن سوء الحمل يوم القيامة يكون على قدر حجم المغلولات . ومن الغفلة ألا يتوب الإنسان المؤمن إلى ربه ليل نهار من كل أنواع الظلم التي يقع فيها بأقواله وأفعاله ، وهو لا يلقي لها بالا ، ولا يقدر جسامة وزرها يوم العرض على الله عز وجل .
اللهم إنا نبرأ إليك من كل ظلم وقعنا فيه ما علمنا منه ، وما لم نعلم ، ونعوذ بك من الغفلة عن التحلل منه بالاستغفار قولا ،والإقلاع فعلا . اللهم اقبل منا ما قبلت من أصفيائك من توبة واستغفار ،واغفر لنا يا مولانا لا إله إلا أنت إنا كنا ظالمين ، وأنت أعلم بنا سبحانك ، لا يخفى عليك من أمرنا شيء .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 982