( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا )
من المعلوم أن الرسالة الخاتمة المنزلة على سيد الخلق عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم ، والموجهة للعالمين إلى يوم الدين قوامها ثنائية الترغيب والترهيب ، ترغيب في سعادة الآخرة الأبدية ، وترهيب من شقاوتها الأبدية . وهذه الثنائية هي الوازع الذي يجعل الناس يجدّون في الاستقامة على صراط الله المستقيم من خلال عبادته ،وذلك بطاعته فيما أمر به، وفيما نهى عنه في الحياة الدنيا، وهي دار ابتلاء لها زوال ، وهي مفضية إلى دار جزاء لا زوال لها .
ومن الترهيب الذي جاء في الذكر الحكيم قول الله عز وجل مخاطبا عباده المؤمنين الذي التزموا أركان الإيمان الستة، فأقروا له بالوحدانية ألوهية وربوبية ، وصدقوا ما أمر بتصديقه من ملائكة ، وكتب منزلة ، ورسل منزلة عليهم ، وبيوم البعث والحساب والجزاء ، وبما قدر لهم سبحانه وتعالى، وابتلاهم به في حياتهم الدنيا من خير وشر قائلا : (( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا )) . ومعلوم أن الوقاية هي الحفظ والصيانة الحماية ، وتكون من خلال الأخذ بأسباب معلومة تتحقق بها على الوجه المطلوب . والخطاب في هذه الآية الكريمة موجه إلى عموم المؤمنين إذ عليهم الأخذ بأسباب الوقاية من عذاب النار في الآخرة ، وكان بالإمكان أن يقتصر الأمر الإلهي على أمرهم بوقاية أنفسهم دون الأمر بوقاية الأهل لكنه جعل وقاية الأهل من النار واجبة وجوب وقاية الأنفس منها لأن هذه الأخيرة مرتبطة عاطفيا فطرة وجبلة بالأهل ، ولا يمكن أن تجتهد الأنفس في وقاية الأهل وهم أحبة في الحياة الدنيا من كل الشرور المحتملة دون أن يكون شأنها معهم كذلك عندما يتعلق الأمر بشر الآخرة المستطير .
ومعلوم أن لفظة " أهل " تدل على الأزواج، والأبناء ،وكل قرابة لقوله تعالى مخبرا عن نبيه موسى عليه السلام : (( فلمّا قضى موسى الأجل وسار بأهله )) ، وقوله حاكيا قول نبيه نوح عليه السلام : (( رب إن ابني من أهلي )) ، وقوله حاكيا قول نبيه يوسف عليه السلام : (( وأتوني بأهلكم أجمعين )).
ومعلوم أن الوقاية المقصودة في الآية الكريمة هي وقاية تكون بعبادة الله عز وجل وطاعته فيما أمر وفيما نهى . أما وقاية النفس فهي مسؤولية كل مؤمن يتعين عليه بموجبها أن يلزمها بهذه الطاعة ، وأما وقاية الأهل، فهي مسؤوليته أيضا يتعين بموجبها أن يلزمهم بهذه الطاعة بكل الطرق والوسائل المتاحة له من نصح وتذكير ، وحرص.... ، وربما تطلب الأمر تأديبهم إن بدا منهم إعراض أو رفض للنصح والتذكير . وقد جاء في كتب التفسير أن وقاية الأهل من النار يكون بتعليمهم العمل بطاعة الله عز وجل ، وقد روي عن الإمام علي كرّم الله وجهه أنه قال في تفسير وقاية الأهل من النار : " علّموهم وأدّبوهم " . وهو ما يعني أن التعليم والتأديب من وسائل وقاية الأهل من النار ، لهذا يلزم كل مؤمن أن يتولى تعليم وتأديب الزوجة أو الزوجات ، وتعليم وتأديب البنين والبنات .
وأول ما يعلمهم كتاب الله عز وجل قراءة وحفظا ، وتدبرا ، وعملا بما جاء فيه ،ائتمارا بأوامره ، وانتهاء عن نواهيه، فضلا عن تعليمهم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحملهم على الاقتداء به في التخلق بها ، وكل ما هو معلوم بالضرورة من الدين .
ومعلوم أن الزيجات بحكم تكليفهن معنيات بأمر الله تعالى بوقاية أنفسهن من نار جهنم، وهو أمر يلزمهن إلا أن ذلك لا يعفي الأزواج من وقايتهن منها أيضا نصحا وتذكيرا وإلزاما بالتعليم والتأديب بموجب القوامة التي استودعهم الله تعالى أمانتها في قوله : (( الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض ، وبما أنفقوا من أموالهم )).
وأما الأبناء، فتقع مسؤولية وقايتهم على الآباء والأمهات ما لم يبلغوا سن التكليف ليتولوا بأنفسهم وقايتها من النار . ووقاية الصغار ممن لم يبلغوا الحلم والتكليف تكون بالضرورة بالتعليم والتأديب. وقد جاء فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يؤمرون بالصلاة لسبع سنين ويضربون عليها لعشر شنين ، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ، وفرّقوا بينهم في المضاجع " ، ولهذا الحديث روايات أخرى كلها صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأمر الأولاد بالصلاة في هذا الحديث يدخل ضمن تعليمها لهم ، وضربهم عليها يدخل ضمن تأديبهم إن بدا منهم تقصير في أدائها أوالحفاظ عليها .
ومعلوم أن لفظة " الضرب" الواردة في القرآن الكريم تفيد التأديب ، ولا تفيد العقاب ، ذلك أن الله تعالى في معالجة نشوز الزيجات يقول في تأديبهن : (( واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا )) ، وقد جاء في كتب التفسير أن أساليب تأديبهن جاءت بالترتيب حسب إصرارهن على النشوز الذي يقصد به التعالي على الأزواج من خلال إسرار أو إظهار رفض طاعتهم المطلوبة شرعا ، وما قد يترتب عن ذلك مما لا تحمد عقباه في عاجل وآجل . ولقد ورد ذكر الضرب مع الوعظ والهجر كأساليب تأديب يرجى من ورائها معالجة النشوز دون أن يقصد بذلك العقاب . وأما العقاب فقد ورد في قوله تعالى : (( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم يؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين )) ، فالجلد وهو نوع من الضرب بسوط أو بقطعة جلد ، وليس هو ضرب التأديب في النشوز، وكلاهما حدد كيفيته الفقه الإسلامي . وما يميز ضرب التأديب عن ضرب العقاب هو وصف الله تعالى هذا الأخير بأنه عذاب مشهود بينما ضرب التأديب لم يصفه بذلك ، ولم يجعله مشهودا ،علما بأن شهادة الجلد وهو حد فاحشة الزنا يعتبر عقوبة أيضا قد تكون وازعا لتجنب هذه الفاحشة ، ذلك أن الإنسان تأبى عليه كرامته أن يشهد الناس جلده ، ويشق عليه ذلك أكثر من عقوبة الجلد .
وعلى غرار ضرب الناشزات من الزيجات تأديبا ، يأتي ضرب الأبناء بغرض التأديب أيضا ، فأما تأديبهم لتركهم الصلاة ،فقد مر بنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما تأديبهم لتربيتهم التربية السوية ،فهو أمر متعارف عليه عند كل الأمم ، وفي كل الديانات ، وليس المسلمون بدعا في ذلك من سائر الأمم في تأديب أبنائهم إذا ما فسدت أخلاقهم ، أونكبت عن أخلاق القرآن الكريم، وأخلاق سنة سيد المرسلين ، ولا يجادل في ذلك إلا منكر للواقع المعيش، ولا تخلو أسرة من الأسر في مجتمعنا المغربي المسلم من تأديب أبنائها بالضرب حين تسوء أخلاقهم دون أن يسمى ذلك عنفا أو عقابا بل هو تأديب ، ويوجد أرأف من والد أو والدة على ولد وهما يؤدبانه ، ولا يمكن أن يزعم زاعم أنه أشفق عليه منهما وهو يؤدب .
وعلى غرار سوء تربيتهم أو أخلاقهم قد يسوء تعلّمهم إما بالتكاسل فيه أو بالنفور منه أو بالغش ، ويكون تأديبهم بالضرب أيضا لحملهم على حسن التعلم ، وحسن التحصيل ، وتنكب التكاسل والغش فيه . وأهم ما كان يؤدب عليه الصغار عندنا منذ الفتح الإسلامي المبارك لبلادنا تكاسلهم في حفظ كتاب الله تعالى في الكتاتيب والمدارس القرآنية التي كان حفظة كتاب الله يتولون أمره نيابة عن الآباء والأمهات ، ويكون تأديبهم دافعا وحافزا على حفظه حفظا لا انفلات له من صدورهم ، فضلا عن حوافز أخرى وما عيب أبدا على حفظة كتاب الله عز وجل تأديب الصغار من أجل تحفيظهم القرآن الكريم إلا في هذا الزمان الذي كثر فيه التجاسر على الإسلام قرآنا وسنة ، وعلت أصوات بعض السفهاء من العلمانيين مطالبة بتهميشه من الحياة لتخلو الساحة لعلمانيتهم المتهتكة ، والإباحية وذلك تنزيلا لأجندة أعدائه ، ولهذا السبب جاء حديث هذه الجمعة من أجل توعية أمتنا المغربية المسلمة بما يكاد لدينها من كيد ماكر خبيث ظاهره الدفاع عن الحقوق والحريات ، وباطنه إرادة السوء بالإسلام . ولعل الضجة التي أقامت دنيا العلمانيين ولم تقعدها على إثر تصوير بعض مثيري الفتنة لمحفظ وهو يؤدب طلبته لحملهم على حفظ كتاب الله عز وجل ، الشيء الذي أفضى به إلى الوقوف أمام القضاء وذلك بسبب تأثير أصوات المنددين بما نشر عنه عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، وقد صارت هذه الأخيرة تمارس الضغط على كل الجهات المسؤولة في كل الميادين ، فتتحرك للتو من أجل محاصرة ما قد يترتب عن بعض ما ينشر من سخط شعبي قد لا تحمد عقباه.
ولسنا ههنا بصدد إنكار ما يجب من إنكار للمنكر أو منع نشر ما يسيء إلى قيمنا الدينية والأخلاقية وإلى سمعة وطننا بين أمم الأرض عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل ندعو إلى ذلك باسم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما كان الحال مع أصحاب الإفطار العلني في شهر الصيام على سبيل المثال لا الحصر ، وهو منكر أبى العلمانيون إنكاره ، وأنكروا في المقابل توقيفهم وعرضهم على التحقيق ومقاضاتهم ، في حين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بسبب تأديب محفظ القرآن طلبته . ولسنا ههنا نشجع الحفظة على الانحراف بالتأديب إلى العقاب من خلال الإفراط في الضرب بل نقول لا بد أن يكون تأديبا كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الصغار بالصلاة ، وأن يكون أمر التأديب في التعلم كأمر التأديب فيها قصدا وكيفية .
والغريب أن تطلع علينا الوزارة الوصية على الشأن الديني بصفحة كلفت خطباء الجمعة بتلاوتها اليوم على عمّار المساجد ، وهي عبارة عن إدانة لما سمته عنفا يمارس على المتعلمين ، وقد حادت متعمدة بذلك عن تسميته تأديبا ، وتجاهلت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب الأبناء إذا بلغوا عشرا ولم ، علما بأن الناس قد سمعوا هذا الحديث مئات أو آلاف المرات في المساجد يتلى من فوق منابر الجمعة . والوزارة فيما أقدمت عليه تزكي أطروحة العلمانيين ، وتذعن لهم عوض أن تبيّن حقيقة التأديب في حمل المتعلمين على التعلم ليس على طريقة المحفظ الذي بالغ في تأديب طلابه بل بالطريقة المعهودة المألوفة منذ قرون في بلادنا . ونتحدى كل من حفظ كتاب الله عز وجل وهو يزعم أنه لم يؤدب حين كان تراخيه في الحفظ بمن فيهم أعضاء المجالس العلمية الأعلى منها والمحلية ، وغيرهم من العلماء والخطباء والوعاظ . ولقد اقتفت الوزارة الوصية على الشأن الديني خطوة الوزارة الوصية على التربية التي التبس عليها أيضا التأديب في المؤسسات التربوية، فسمته عنفا تقليدا لما هو عليه الحال في المجتمعات العلمانية ، وجرّمته ، ويوجد بسبب ذلك اليوم فراغ مؤسف للإجراءات الوقاية والعلاجية لانحراف المتعلمين ، وكفى دليلا على استفحاله ما تنقله لنا وسائل التواصل الاجتماعي يوميا دون أن تقام الدينا ولا تقعد كما حصل بالنسبة لما حدث لمحفظ القرآن .
وعلى الرأي العام الوطني ألا يرضى سوقه سوق الأنعام فيما تروجه جهات مشبوهة تموه على أهدافها الماكرة والخبيثة برفع شعارات الدفاع عن الحريات والحقوق ، وهي تستهدف في الواقع ديننا الحنيف من مختلف المواقع وبمختلف الأساليب الدنيئة ، وتجعل من الحبة قبة كما هو الشأن بالنسبة لفضية تأديب الحافظ طلبته ، وإن كان قد جاوز حد التأديب ، وأساء ربما من حيث لا يدري إلى الدين ، وأعطى فرصة لأعدائه للنيل منه مستغلين خطأه .
وفي الأخير نذكر بمقولة الإمام ابن رشد حين منع حكام زمانه الناس عن تعاطي الفلسفة بذريعة الخوف من وقوعهم في الكفر حيث قال : " مثل من منع الفلسفة عن الناس كمثل من منع عنهم الماء لأن قوما شربوا الماء فشرقوا فماتوا " ، وهذه المقولة تنسحب تماما على من يريدون منع تأديب الصغار إذا ما تكاسلوا في التعلم لأن محفظا واحدا أساء تأديب طلابه .
اللهم إنا نسألك الثبات على دينك ، وتعوذ بك من الفتنة فيه ، ونسألك سداد القول والفعل .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلّى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 985