( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم )
من المعلوم أن الله عز وجل ما تعبّد العباد بعبادة إلا وجعل القصد من ورائها حصول التقوى منهم، وهي من أسمى مراتب طاعته والخضوع له ، وقوامها أن يجعل العباد بينهم وبين ربهم سبحانه وتعالى من الانصياع لأوامره ما يحول بينهم وبين سخطه وغضبه وعذابه مما توعد به الخارجين عن طاعته .
ولقد أرسل الله تعالى عبر العصور رسله الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين تترا برسالاته إلى عباده يوجههم فيها إلى كيفية حصول التقوى منهم من خلال ما افترضه عليهم من طاعات سواء فيما أمرهم به أو فيما نهاهم عنه حتى ختم الرسالات بالرسالة العالمية الخاتمة الموجهة للناس كافة إلى قيام الساعة والمنزلة على سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والتي دلهم فيها على كمال التقوى بكمال دينه الذي رضيه لهم .
ولقد جاءت الرسالة الخاتمة والناس في ضلال كبير يتجلى في كل نواحي حياتهم بما في ذلك ما وصلهم من عبادات عمن سبقهم وقد نالها التحريف، فحادت عما تعبّدهم به الله عز وجل . ومن تلك العبادات عبادة النحر المرتبطة بعبادة الحج والتي أمر بها الله تعالى خليله إبراهيم عليه السلام . ومع تراخي الزمن حاد الناس عن القصد من وراء تلك العبادة ،وهو تقوى الله عز وجل إلى أسوإ مقصد فجعلوا النحر لأصنام وأوثان عوض أن يكون لله تعالى ، فجعلوا يريقون دماء الذبائح عليها ، ويعلقون من لحومها على الكعبة . ولما جاء الرسالة الخاتمة صححت هذا الوضع المنحرف عن صراط الله المستقيم ، وأعادت عبادة النحر إلى ما كانت عليه زمن نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام تنحر لله تعالى دون شركاء ، ويطعمها الحجيج ، والمحاويج .
ولقد بين الله تعالى في محكم التنزيل القصد من عبادة النحر فقال عز من قائل : (( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم )) ، ومعلوم أن النيل هو الإصابة، فيقال أصابه إذا ناله أووصل إليه أو أحرزه . ولقد صحح الله تعالى بهذا القول ما دخل عبادة النحر من انحراف بها عن القصد الذي كان زمن الخليل عليه السلام حيث كانت دماء ولحوم الذبائح عند المشركين في الجاهلية تقدم لأصنامهم . وعلى غرار تصحيح الله عز وجل مناسك الحج ، والعودة بها إلى ما كانت عليه زمن الخليل عليه السلام ، صحح شعيرة النحر أيضا، فجعل القصد منها تقواه ، وهي كما مر بنا جعل العباد بينه وبينهم ما يحول دون سخطه وغضبه وعذابه ، وأي سخط أكبر من أن يكون هو سبحانه وتعالى واهب بهيمة الأنعام والموهوبة لهم يقدمونها لمن يشركون به من أصنام وأوثان.
ولقد سن الله تعالى لغير حجاج بيته الحرام أيضا سنة النحر في عيد الأضحى وجعلها سنة مؤكدة ، وجعل القصد منها هو نفس القصد مما ينحر في الحج ،وهو تقواه . ومن تقواه أن يكون مما ينحر في الحج أو في غيره طيبا لأنه الله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيبا ، وقد بيّن رسوله صلى الله عليه وسلم الطيب من الأنعام التي تنحر لله تعالى، والتي يجب أن تكون سليمة من كل ما يعيبها من عيوب، فضلا عن كونها من الكسب الحلال ، وأن يكون القصد من وراء نحرها هو تقوى الله عز وجل لا غير .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بسنة النحر المؤكدة التي تفضل عليهم بها خالقهم سبحانه وتعالى لتطيب بها نفوسهم ، وينالون بها الأجرالعظيم حتى أن دماءها حين تنحر لتقع منه عز وجل بمكان قبل أن تقع على الأرض ،وذلك لأن أحب الأعمال إليه سبحانه وتعالى يوم النحر هو إهراق تلك الدماء ، وإن الأضاحي لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها تشهد على تقوى المتقربين بها إلى خالقهم خالصة له، يصيبون لحومها ،وينالون أجورها .
وبهذه المناسبة لا بد من التنبيه إلى ما يشوش على هذه الشعيرة الدينية العظيمة مما طرأ على حياة بعض الناس إما من استكبارا أواستنكاف عن إتيانها وهم قادرون على ذلك أو من تبرم منها لفقرهم وحاجتهم أو من تكلف لشرائها حتى أن بعضهم ليقع فيما حرم الله من قروض ربوية لاقتنائها لأن قصدهم إنما هو إصابة لحومها دون تقوى الله عز وجل ، وأنى يتقى الله تعالى بما حرم ؟ ومما يشجع بعض السفهاء ومرضى القلوب على انتقاد هذه الشعيرة الدينية والنيل منها بقالة السوء المبالغة في أثمانها .
ومن المؤسف جدا أن أهل الإحسان وهم يجتهدون في توفير الأضاحي للمحاويج ليكتشفون بعض السلوكات المشينة من بعضهم تعكس جشعهم حيث يتحايلون للحصول على ما فوق حاجتهم من الأضاحي أو من أثمانها دون استحضار تقوى الله عز وجل، الشيء الذي يثير الشكوك في نفوس أهل الإحسان حين يكتشفون حيل المتحايلين منهم ، وقد يكون ذلك سببا في حرمان الصادقين منهم من الحصول على نصيبهم منها لإدخال الفرحة عليهم وعلى أسرهم . وإن بعض المتسترين بالحاجة منهم ليجمعون من لحوم الأضاحي كميات كبيرة فوق ما يحتاجونه ثم يبيعونها دون قيمتها بأبخس الأثمان وفي ذلك ابتذال لها ، وخروج عن القصد الذي أراده لها الله عز وجل .
وعلى الأمة أن تفقه جيدا هذه الشعيرة الدينية ، وتوليها من الأهمية ما هي جديرة به ، وأن يكون القصد هو تحقيق تقوى الله عز وجل .
اللهم إنا نسألك أن تتقبل منا نسكنا ، وأن تجعله خالصا لوجهك الكريم ، ونعوذ بك من كل ما يحول بيننا وبين تقواك من قول وعمل ، ونسألك الصدق فيما نتقرب به إليك من قول وعمل .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 988