( ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا)
( ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم ))
من المعلوم أن التقسيم الذي جعله الله تعالى للبشر في رسالته الخاتمة والموجهة إليهم لهم إلى يوم الدين باعتبار ما يعتقدونه تقسيم ثابت لا يمكن أن يطرأ عليه تغيير بحال من الأحوال ، ولا يمكن أن يحصل التداخل بين عناصره وهي مختلفة متنافرة لا رابط بينها عقديا .
ولقد وضع سبحانه وتعالى لكل قسم اسما أو صفة يعرف بها ،فسمى قسما من الناس كافرين، وكفرهم إما جحود بألوهيته سبحانه وتعالى وإنكار لها أو إشراك غيره معه فيها ، وسمى قسما آخر منهم منافقين، وهم الذين يبطنون الكفر ، ويظهرون الإيمان ، وقد خصهم سبحانه وتعالى بهذه الصفة تمييزا لهم عن الكافرين كفر جحود أو كفر شرك ، وسمى قسما ثالثا منهم مؤمنين ،وهم الذين يؤمنون به وقد أسلموا له ، وليس مع هذا التقسيم الثلاثي تقسيم آخر مهما حاول البعض إيجاد مراتب أو منازل أخرى بين فئاته الثلاث، كما أنه لا حياد ينفع من يتبرءون من هذا التقسيم ،وما ينبغي لهم وما يستطيعون . ومن رحمة الله عز وجل بالخلق أنه أعطى فرصا للكافرين والمنافقين كي ينتقلوا من الكفر والنفاق إلى الإيمان ، ومدّد هذه الفرص إلى ما قبل الغرغرة ومغادرة الدنيا إلى الآخرة .
وإذا ما كان الكافرون كفر جحود أو كفر شرك و المؤمنون واضح تموقعهم العقدي ، فإن المنافقين يريدون التموقع عقديا بين هؤلاء وأولئك، وهو أمر غير ممكن لتعارض عقيدة الكفر مع عقيدة الإيمان لأنهما بمثابة ضفتي نهر لا تلتقيان وبينهما برزخ لا يبغيان .
وعقيدة النفاق في حقيقة أمرها منحازة كليا إلى عقيدة الكفر، ومعادية كليا لعقيدة الإيمان ،بل هي أشد خطرا عليها، لهذا كثر تحذير المؤمنين منها في القرآن الكريم بسبب موقفها المخادع لهم ،لأن المؤمنين بإظهار المنافقين لهم إيمانهم الكاذب يثقون فيهم بينما لا يثقون في الكافرين لوضوح موقفهم العدائي من الإيمان ولكفرهم البواح .
ومن ثقة المؤمنين بالمنافقين أنهم قد ينشغلون بما يبدر منهم من مواقف لا تمت بصلة إلى الإيمان ، ويغارون علي إيمانهم وهم لا يعلمون أنه في حقيقة أمره إيمان كاذب بل قد يحزن المؤمنون إذا ما لاحظوا ركونهم إلى معسكر الكفر ، وهو ما حدث والوحي ينزل، فسجله حيث خاطب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم قائلا : (( ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم )) . ولقد جاء في كتب التفسير أن هؤلاء إما مرتدون بعد إسلامهم أو منافقون ،لأن الكافرين لا يسارعون في الكفر وهم يتشربونه ويعلنونه ، وإنما الذين يسارعون فيه هم المنافقون لأنهم بإظهارهم الإيمان وإبطانهم الكفر إنما يريدون خداع المؤمنين ، ولذلك يسارعون في الكفر من أجل زعزعة إيمانهم ، وبث الشكوك في نفوسهم . ومعلوم أن المسارعة في الشيء إنما تحصل عندما يخشى فوات فرصه أو يخشى زواله .والمنافقون وهم على كفر خفي يسارعون فيه من خلال الانتصار له بشتى الطرق والأساليب من أجل ترجيح كفته على كفة الإيمان ، وبذلك يقع التشويش على المؤمنين في إيمانهم من أجل ردهم من بعده كافرين .
والله تعالى في هذه الآية الكريمة يدعو رسوله عليه الصلاة والسلام ومن خلاله يدعو كل المؤمنين إلى عدم الاكتراث بما يفعله المنافقون ، وعدم الحزن لذلك ، وهو حزن سببه الخوف على ضياع الإسلام الذي تعهد سبحانه وتعالى بحفظه ونصرته ، وقد طمأنهم بقوله : (( إنهم لن يضروا الله شيئا )) أي لن يستطيعوا تعطيل أو تغيير شيء من دينه الذي أظهره على الدين كله ثم يطمئنهم أكثر بقوله : (( يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم)) ، ومعلوم أن الحظ هو كل نصيب مما فيه منفعة ، وأكبر حظ على الإطلاق هو الفوز بالجنة والنجاة من النار ، وهو حظ لم يرده الله تعالى للمنافقين وقد أعد لهم عذابا عظيما في الدرك الأسفل من النار حيث العذاب المضاعف عذاب على كفرهم الخفي ، وعذاب على إيمانهم الكاذب ، وعلى خداعهم للمؤمنين وكيدهم لهم الكيد الخبيث .
وفي هذه الآية الكريمة ما يطمئن المؤمنين إلى قيام الساعة من الخوف على دينهم من المنافقين في كل زمان وفي كل مكان خصوصا وهم يحزنون لحال المنافقين وهم يسارعون في الكفر شفقة عليهم من مصير الكافرين، والله تعالى لا يريد أن يجعل لهم في الآخرة حظا أو نصيبا كنصيب المؤمنين بل يريد لهم العذاب العظيم.
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه، وتذكير المؤمنين الذين يحزنون لما يصدر عن المنافقين في زماننا هذا من مسارعة في أشكال عدة من الكفر تتمثل في الانتصار لكل ما يمت بصلة إليهم ، وتفضيله على كل ما له صلة بالمؤمنين سعيا وراء دفعهم إلى الرغبة في تقليد أحوال الكفر وتفضيلها على أحوال الإيمان ، وهم بذلك ينوبون عن الكفار في تسويق كفرهم بين المؤمنين ويقومون بذلك نيابة عنهم . ونظرا لحسن ظن المؤمنين بمن يعلنون انتسابهم للإسلام من المنافقين ، فإنهم يحزنون حين يرونهم يستميتون في الانتصار للكفر خوفا عليهم منه ، وهم لا يعلمون أنهم في الحقيقة يبطنونه ، ويظهرون لهم إيمانا كاذبا .
ولا يوجد في هذا الزمان منافق يجرؤ على إعلان كفره ، وليست لديه الشجاعة على ذلك بل كل المنافقين يدّعون أنهم مسلمون ولكنهم في المقابل يرددون مقولات الكفر والشرك بل ينتصرون لها انتصارا ، وهذه لعمري هي المسارعة فيهما التي لا يجب أن يحزن عليها المؤمنون كما أمرهم الله عز وجل بذلك في محكم التنزيل.
ومن المسارعة في الكفر أن يطالب البعض بتعطيل ما شرع الله تعالى ،وتعويضه بشرائع وضعية مقتبسة من عقائد الكفار والمشركين والتي يعتبرونها عين الصواب، وغاية العدالة والإنصاف ، ومنتهى التحضر والتقدم ، وهو ما يحزن المؤمنين خوفا على دينهم الذي أكد الله تعالى أنه لا يضره شيء من كيد الكائدين وغاية ما يبلغه هؤلاء أن يسجلوا خروجهم من حظيرة الإيمان إلى حظيرة الكفر والنفاق شاهدين على ذلك بألسنتهم، ومواقفهم ، وبما كسبت أيديهم .
وبجدر بكل مؤمن أن يأتمر بأمر الله تعالى، فلا يحزنه من يسارعون في الكفر ممن يظهرون الإيمان ويبطنون غيره ، وأن يستيقن أن دين الله عز وجل سيبقى ظاهرا على الدين كله ولو كره الكافرون والمنافقون ، وما عليه إلا الثبات عليه لأن الثبات عليه ابتلاء لتمحيص الصادق إيمانهم من الكاذبين .
اللهم إنا نعوذ بك من أن نخالف لك أمرا أمرتنا به ، ونسألك الثبات على دينك القويم وصراطك المستقيم والصدق في ذلك ، ولقائك ونحن كذلك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 991