الذين يَألفون ويُؤلَفون
حِلمٌ ورِفقٌ:
الحِلم والرفق خُلُقان متلازمان لا ينفصلان، فمَن رُزِقَ الحِلم كان رفيقاً بالناس، ومَن رُزِقَ الرِّفقَ بالناس كان حليماً!.. يقول الله عز وجل في محكم التنـزيل واصفاً ذلك: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى:43).
أي: إنه من الأمور المحمودة والصفات الفاضلة (أي من عَزْمِ الأُمُور)، أن يصبرَ الإنسان المسلم على الأذى، ويتجاوز عمّن آذاه (وغَفَرَ)!.. وكل ذلك من خُلُق (الحِلم)، الذي لا يتمتّع به إلا كرام الناس، لأنه أحد شِيَمِ الأخلاق الفاضلة، التي يجب على كل مسلمٍ مؤمن، أن يتحلّى بها:
- [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بالَ أعرابيٌ في المسجد، فقام الناسُ إليه لِيَقَعُوا فيه (بالسبّ والشتم)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دَعوهُ وأريقوا على بَوْلِهِ سَجْلاً (دلواً) من ماء، أو ذَنوباً (دَلواً) من ماء، فإنما بُعِثتُم مُيَسِّرينَ ولم تُبعَثوا مُعَسِّرين)] (البخاري).
- وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنَفِّروا) (مسلم).
فهو أمرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإدخال السرور إلى قلب المؤمن، وتسهيل كل أمرٍ عسيرٍ عليه، وإدخال البشائر إلى نفسه!..
- [عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أُخبركم بمَن يَحرُمُ على النار، أو بمَن تَحرُمُ عليه النارُ؟.. تَحرُمُ على كل قريبٍ (أي: قريبٍ من الناس يلاطفهم، أو مَن كان ذا كرمٍ وسكينةٍ ووقارٍ ويُسر) هَيِّنٍ ليِّنٍ سَهْلٍ (أي: يُسَهِّل أمور الناس، ويَقضي حوائجهم ويتّبع سبيل اليُسر معهم)] (الترمذي).
- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خُيِّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرَيْن (قَطُّ) إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً) (متفق عليه).
* * *
الرِّفقُ خَيْرٌ عظيم:
- الرفقُ هو: لِينُ الجانب، قولاً وفعلاً، والأخذ بالسهل، كلما كان ذلك ضرورياً أو ممكناً، والتيسير على الناس: (.. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: من الآية 88).
- والرفق من صفات الله عزّ وجلّ: (إنّ الله رفيقٌ يحبّ الرِّفقَ في الأمر كله) (متفق عليه).
- والرفق زينة المؤمن: (إنّ الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانَهُ، ولا يُنـزَعُ من شيءٍ إلا شَانَهُ) (مسلم).
- والرفق خير عظيم للمؤمن: (مَن يُحرَم الرفقَ يُحرَم الخيرَ كلّه) (مسلم)، أي مَن يَكُن في سلوكه وتعامله مع الناس شديداً عنيفاً قاسياً، ولا يوفّق إلى السهولة ولِينِ الجانب واليُسر.. فإنه كالذي حُرِمَ الخيرَ كله!..
- والرفق يوحِّد ولا يُفَرّق: (.. وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ..) (آل عمران: من الآية 159).
* * *
الحِلمُ والرِّفقُ يُفضيان إلى الأُلفة:
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنُهُم خُلُقاً، الـمُوَطَّؤونَ أكنافاً، الذين يَألفون ويُؤلَفون، ولا خيرَ فيمَن لا يَألف ولا يُؤلَف) (الألباني – صحيح الجامع).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (إنّ المنافقينَ لا يَألَفونَ ولا يُؤلَفون) (أحمد).
1- فابن الدعوة الإسلامية صاحب الهدف السامي، من أكثر الناس عملاً وبذلاً وحُنكةً، وأشدّهم التزاماً.. فهو قائدٌ للمسلمين، وخادمهم في آنٍ واحد، وهو مُذلِّل عقباتهم، وملتحِمٌ معهم، بقلبه وروحه وساعده وجوارحه، في السرّاء والضرّاء!..
2- كما إنه أحسن الناس أخلاقاً، يُـمارس طاعةَ الله عزّ وجلّ بلا حدود، فهو من فئة: (الـمُوَطَّؤونَ أكنافاً)، وهم: المتذلِّلون لله عزّ وجلّ، والمتواضعون للمسلمين، الذين يجعلون أنفسهم في خدمة غيرهم: (كانت الجارية تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لِيُعينها في بعض عملها)!..
3- وإنه من (الـمُـطاوِعين)، الذين يُقدّمون كل ما يمكن تقديمه، من وقتٍ وبذلٍ وعَوْنٍ للآخرين، دون أي نفورٍ أو تذمّرٍ أو مقابلٍ أو ثمن!..
4- وابن الدعوة الإسلامية، الذي يحرص على سمعته وموقعه المرموق بين الناس، هو كذلك من فئة: (الذين يَألفون ويُؤلَفون):
- و(يَألفون): هم الذين يُقبِلون على الناس، بكل جوارحهم وصِدقهم وعَفويّتهم، فيتعاملون معهم بكل صدقٍ وثقةٍ واحترام!..
- أما (يُؤلَفون): فهم الذين يُزيلون كل الحواجز والحدود التي بينهم وبين الناس، ويُخفونَ كلَ مِيزةٍ أو صفةٍ تميّزهم عن غيرهم، ويُقَدِّمون من ذوات نفوسهم، ومن سلطانهم وموقعهم.. ما يؤدي إلى حرص الناس على محبّتهم لهم، وإدامة الصلة بهم!..
بهذا الإنسان، تَفتح الدعوةُ الإسلامية مَغاليقَ القلوب، وتَسبر ثغرات النفوس.. فتفتح الدنيا كلها بأخلاق الإسلام، وليس القلوبَ والعقولَ والأرواحَ فحسب!..
* * *
إنّ ما يتناقض مع هذا الخُلُق (يألَف ويؤلَف)، بعضُ الصفات الأخلاقية التي لابدّ أن يبتعدَ ابنُ الدعوة الإسلامية عنها، وهي:
1- الكِبْر: وهو بطر الحق وغمط الناس، أي إهدار الحق وإنزال الناس في غير منازلهم ووضع النفس فوقهم، تكبّراً.
2- العناد: وهو الجمود عند موقفٍ ثَبُتَ خطؤه، وهو من أبواب الكبر ويُقَاس عليه.
3- المراء والجدال: وهو حُبّ الغلبة بالباطل، مع خِفّةٍ في العقل ومحدوديةٍ في الفهم.
4- التباهي بالأعمال: وهذه الصفة تُناقِض الإخلاصَ في العمل، وهي باب من أبواب الرياء، تُفَرِّق الصفوف، وتهدر الطاقات، وتُدَمِّر النتائج.
إنّ الدعوة التي تضم في صفوفها المتكبّرين، والمجادلين بالباطل، والمرائين، والمزاودين بالأعمال.. دعوةٌ تعاني من شدةٍ بالغة، لأنّ وجود أمثال هؤلاء ضمن صفّها سيوصلها إلى الفشل!..
أما أولئك المطاوِعون الملتزمون، الذين يَألفون ويُؤلَفون، فإنهم يزيدون الدعوة قوةً ومتانةً وانسجاماً، لأنهم يُذيبون الخلافات فيما بينهم، ويزيدون من الثمرات والأعمال.
إنّ دعوةً يتحلّى أبناؤها بالحِلمِ، والرِّفْق، ويتّصفون بأخلاق (يَألفون ويُؤلَفون)، هي دعوة متراصّة الصفوف، متقدِّمة المزايا، ومؤهَّلة لتحقيق أهداف الإسلام، وللفوز على الجاهلية الخاوية المفكَّكة: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال:63).
وسوم: العدد 1004