( ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون )
من لطف، وعناية، ورعاية ، ورحمة الله عز وجل بخلقه أنه جعل لهم من ضمن ما كتب عليهم وهو يبتليهم في حياتهم الدنيا فرصا يستدركون بها فشلهم في الاستقامة له على الصراط المستقيم الذي ارتضاه لهم ، وجعله وسيلتهم للفوز بالنعيم المقيم ، والنجاة من الجحيم في الآخرة . ولو أنه سبحانه وتعالى يؤاخذهم على كل زلة أو انحراف عن صراطه المستقيم لأهلكهم جميعا مصداقا لقوله تعالى : (( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا )) .
ومع نعمة تأخير الخلق إلى الأجل المسمى، والتي لا يقدرها حق قدرها كثير منهم بتماديهم في النكوب عن صراط خالقهم المستقيم ، فإنه يبتليهم في مسارهم الدنيوي بما يذكرهم بهذه النعمة ، وبما يجعلهم يرجعون عن نكوبهم عن صراطه المستقيم ، وذلك بنقص فيما يسبغه عليه من نعم لا يشكرونها ويكفرونها ، بل يستعملونها في معصيته مصداقا لقوله تعالى : (( ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون )) ، والعذاب الأدنى إنما هو زوال نعم الله تعالى السابغة إلى حين .
ولقد تكرر في كتاب الله عز وجل ذكر أسباب زوال نعم الله تعالى ، نذكر من ذلك قوله تعالى : (( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون )).
ومن زوال تلك النعم إلى حين تأخر نزول المطر عن موعده المألوف ، ولا يكون تأخره إلا بنكوب الخلق عن صراط خالقهم المستقيم ، وبمقابلتهم نعمه السابغة بتماديهم في المعاصي والآثام وأنواع الفساد المختلفة مصداقا لقوله تعالى : (( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )) ،وما يكون الجوع إلا بانحباس المطر؟ ومع حلول الجوع يحل الخوف .
وإذا منع الخالق سبحانه وتعالى الخلق من نزول المطر ، فإنه ينعم عليهم بنعمة استسقائه ،حيث جعل لهم صلاة خاصة بالاستسقاء لها دلالة مفادها أن الخلق يحصل لهم ندم على نكوبهم عن صراطه المستقيم ، فيرجعون إليه تائبين منكسرة نفوسهم استدرارا لرحمته ولطفه . وإذا كانت صلاة الاستقاء ككل صلاة لا بد لها من طهارة ، فإن طهارتها تزيد عن الصلوات الأخرى بطهارة الندم وانكسار النفوس وبالتوبة إلى الله عز وجل ، والإقلاع عن المعاصي التي هي السبب الحقيقي في انحباس القطر كما بيّن ذلك الله عز وجل في محكم التنزيل ، ولا اعتبار لما يذهب إليه البعض ممن يردون ذلك إلى ظروف طبيعية ، وإلى اختلاف المناخ بين أرض وأخرى ... إلى غير ذلك مما هو محض ظنون لا تثبت أمام حقيقة الوحي .
وقد يقبل الناس على صلاة الاستسقاء حين يحل بهم القحط ويهددهم إلا أن غير المؤكد عندهم هو مدى صدق التوبة التي هي الطهارة المعنوية لتلك الصلاة ، والتي لا يتحقق المراد إلا بها .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بدلالة صلاة الاستسقاء التي أقيمت في بلادنا أول يوم أمس والتي من المفروض أن نكون قد هرعنا إليها بما تستوجبه من صدق نية التوبة .
ولقد سجل التاريخ أن المسلمين بقرطبة في الأندلس منعوا القطر لأكثر من حول، فدعاهم أحد العلماء وهو المنذر بن سعيد أهلها إلى الاجتماع للاستسقاء فاجتمعوا ، وانتظروا أن يتقدمهم خليفتهم عبد الرحمان الناصر لكنه تخلف عنهم ،ولما تفقد العالم الخليفة وجده منزويا بمكان وهو في حال من انكسارالنفس يناجي ربه سبحانه وتعالى، ويتضرع إليه وهو يحثو التراب على رأسه، ويمرغ وجهه فيه ،متوسلا إليه ألا يأخذ رعيته بذنبه ، ولما رآه المنذر على تلك الحال عاد إلى الناس في مصلاهم قائلا لهم : ّ انصرفوا فقد أذنتم بالسقيا " ، وبالفعل عجل الله تعالى لهم السقيا دون إقامة صلاتها، ولنا في هذه القصة عبرة لمن أراد الاعتبار.
إن المسلمين في هذا الزمان قد تخطوا كل الخطوط الحمراء بتماديهم في كل أنواع المعاصي حتى صار منهم وفيهم من يطالب بإشاعة ما عند الأمم الضالة من فواحش منكرة قد ذكر الله تعالى ما أصاب من ارتكبوها في الزمن الغابر كفاحشة قوم لوط ، فضلا عن فاحشة الزنا . ولقد صارت هذه الفواحش المنكرة تسوق اليوم بين المسلمين بأسماء يراد بها التمويه عن قبحها وشناعتها ، ويطالب بها على أنها من حقوق الإنسان ، وهي مما يستقذره ،ويأنفه، ويتقزز منه حتى الحيوان . ولعل ما حصل في دولة قطر من إلحاح على رفع شعار الشواذ جنسيا يدل على المستوى الذي بلغه استهتار البشر بالقيم الأخلاقية .
وعلى أمتنا الإسلامية في مشرقها و قي مغربها أن تفقه جيدا دلالة صلاة الاستسقاء ، وأن تقبل عليها بشرطها الذي مر بنا ذكره ، وربما كفى عن إقامتها صدق التوبة كما كان الحال مع الخليفة عبد الرحمان الناصر . ولتكن توبة الأمة كلها كتوبة هذا الخليفة الصالح الذي سقى الله تعالى رعيته دون صلاة الاستسقاء لصدق توبته ، وصدق تضرعه .
اللهم إنا قد قصدناك بصلاة استسقيناك بها وأنت أعلم بنا ، فاقبل يا رب ممن حضروها وقد استوفوا عندك شرط قبولها ، ولا تؤاخذنا بمن استنكفوا عن إقامتها ، ومن لا زالوا مصرين على تنكب صراطك المستقيم ، ولا الذين لم يستوفوا شرط قبولها ، وعجل لنا اللهم بسقيا تذهب بها عنا مقتك والجفاف ، فإنك إن تجد من تعذب غيرنا، فإننا لا نجد من يرحمنا سواك ، ولئن لم نجد ما نتشفع به إليك لسوء أعمالنا، فإننا نتشفع إليك بكلمة التوحيد لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين . اللهم لا تبتلينا بما لا طاقة لنا به واعف عنا وارحمنا يا أرحم الراحمين يا رب العالمين.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1008