تفقّدوا قلوبَكم
لا يخفى على من تدبّر كتاب الله تعالى، وأحاديث نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، كم لقضية القلب من أهمية بالغة. فالقلب هو موضع نظر الله تعالى في العبد. فهناك القلب الخاشع، والقلب السليم، والقلب المطمئن بالإيمان، والقلب المهتدي... وكذلك القلب القاسي، والقلب الذي يقلّبه الله عقوبةً لصاحبه، والقلب الزائغ، والقلب الآثم، والقلب الغافل، والقلب الذي يطبع الله عليه، والقلب الذي لا يَفْقَه ولا يعقِل، والقلب المقفول، والقلب المريض.
والله سبحانه إنما ينظر إلى قلب العبد وعمله. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إنّ الله لا ينظر إلى صُوَركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". رواه مسلم.
ولن ينفعَ العبدَ يوم القيامة مالُه وبنُوه ما لم يكن قلبه سليماً: (يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا مَن أتى الله بقلبٍ سليم). {سورة الشعراء: 88، 89}.
وجدير بالمسلم بعد هذا كله أن يتفقّد قلبه فيعرفَ علامات سلامة القلب، وعلامات مرضه أو قسوته... ويعرف أسباب السلامة وأسباب المرض والقسوة، ويوجّه قلبه إلى الله سائلاً إياه البرّ والتقوى.
وأوّل ما يطالعنا في ذلك هو خشوع القلب لذكر الله ليخلُص من القسوة:
قال تعالى: (ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبلُ فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم. وكثيرٌ منهم فاسقون). {سورة الحديد: 16}.
فالغفلة عن الله، عن نِعَمِهِ، عن آلائه، عن حِلمه... تؤدّي إلى قسوة القلب. وقد قال سيدنا عبد الله بن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتَبَنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين.
وقد أخذ الله علينا الميثاق أن نعبدَه وحده، فنحبّه ولا نحب أحداً أو شيئاً كحبنا إياه، ونخافه ونرهبه كما لا نخاف ونرهب غيره مثله، ونتّبع شريعته ولا نتلقّى شرعاً من غيره. قال تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم: سمعنا وأطعنا. واتقوا الله. إن الله عليم بذات الصدور). {سورة المائدة: 7}.
فعندما لا نرعى عهد الله وميثاقه تحل بقلوبنا القسوة. وقد قال الله تعالى عن بني إسرائيل: (فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية). {سورة المائدة: 13}.
وربنا سبحانه يبلونا بالفتن في أموالنا وأنفسنا، كما يبلونا بالنعيم وسَعة الأرزاق... فإذا لم نفهم عن الله، وغفلنا عن حكمته وعن حِلمه وعن فضله... ولم نتضرّع إليه يوشك أن تقسو قلوبنا. ولنقرأ قول ربنا سبحانه: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا، ولكن قست قلوبهم وزيّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون). {سورة الأنعام: 43}.
وصاحب القلب الحي لا يفتأ يذكر الله على كل أحواله، يذكره بلسانه تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً واستغفاراً... ويذكره بقلبه كلما لاحت له آية من آيات الله المبثوثة في الآفاق وفي الأنفس، ويذكره كلما وجد نفسه تتقاعس عن طاعة أو تهمّ بمعصية... ويظهر ذلك عليه في تمثّله بتقوى الله، وبخوفه من عذابه، وفي بكائه من خشيته. وقد روى ابن حبّان في صحيحه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "قال الله عز وجل: وعزّتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنَين. فإن أمِنَني في الدنيا أخفْتُه يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمنتُه يوم القيامة".
وغنيٌّ عن البيان بعد هذا أن من أسباب سلامة القلب مراقبة الله تعالى، والتزام أوامره، واجتناب نواهيه، واستغفاره عما يقع فيه العبد من تقصير في هذا وذاك، وكثرة ذكره وتلاوة كتابه، والاقتداء بنبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وصحبة الأخيار والصالحين، والحرص على الخشوع في الصلاة وتدبّر آيات الله المسطورة في كتابه، والمبثوثة في الكون من حوله.
وأخيراً، فهذه بعض الآيات الكريمة التي تصف أحوال القلوب:
- (هذا ما توعَدون لكل أوّابٍ حفيظ، مَن خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلبٍ مُنيب). {سورة ق: 32، 33}.
- (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تُحشرون). {سورة الأنفال: 24}.
- (ولا تُطع مَن أغفلنا قلبَه عن ذِكرنا واتّبع هواه وكان أمره فُرطاً). {سورة الكهف: 28}.
- (ألا بذِكر الله تطمئن القلوب). {سورة الرعد: 28}.
- (ذلك ومَن يُعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب). {سورة الحج: 32}.
- (أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها). {سورة محمّد: 24}.
- (لهم قلوب لا يفقهون بها). {سورة الأعراف: 179}.
وسوم: العدد 1008