العلاقة بين الأجيال كما يحددها القرآن الكريم
لفظة "علاقة " في اللسان العربي لها عدة معان ، أهمها أنها صلة أو رابطة تربط بين الأفراد والجماعات صغيرة أو كبيرة أوبين المجتمعات ، وهي توصف بالإنسانية حين تكون جيدة ، وحين تسوء توصف بالمتوترة أو المنقطعة ...
ومعلوم أن قناعات وثقافات البشر تعتبر أهم مؤثر في تحديد العلاقات فيما بينهم حسب طبيعة تلك القناعات والثقافات من حيث انفتاحها أو انغلاقها .
وما يعنينا في هذا المقال هو التركيز على نوع خاص من العلاقات التي تكون بين الأجيال . والجيل هو مرحلة التعاقب الطبيعية بين الآباء والأبناء ، وقد يحدد بمتوسط الفترة الزمنية بين ولادة الآباء ، وولادة أبنائهم. وغالبا ما تشترك في الفترة الزمنية الواحدة ثلاثة أجيال هي : جيل الآباء ، وجيل الأبناء ، وجيل الأحفاد أو بتعبير زماننا الجيل الأول، والجيل الثاني ، والجيل الثالث ، وتقدر المدة الزمنية التي تجمعهم بربع قرن أو ما يزيد عن ذلك بعقد من الزمن .
وهذه الأجيال الثلاثة لها خصائصها المميزة وإن جمع بينها الزمان والمكان والرحم أو رابطة القرابة . ومن الضروري أن يتسبب اختلاف خصائصها في التأثير على العلاقة فيما بينها ، فتكون إما علاقة توتر، وهو ما يعرف بصراع الأجيال أو علاقة انسجام ، ويكون ذلك بشرط الوعي بأن الاختلاف فيما بين الأجيال أمر طبيعي .
والعلاقة بين هذه الأجيال الثلاثة لها تجليات في الواقع المعيش حسب اختلاف القناعات العقدية والثقافية للمجتمعات البشرية ، وهي علاقة لها وجهان كما سبق علاقة توتر ، أو علاقة انسجام . ففي المجتمعات الغربية التي تسيطر فيها القناعة العلمانية التي لا تقيم وزنا للقيم الدينية الغالب فيها على العلاقة بين الأجيال الثلاثة هو سيطرة الفتورعليها ، والذي يعكسه وضع الجيل الأول حين يبلغ سن الشيخوخة ، فيكون مصيره التهميش الشيء الذي يجعل العلاقة بالجيل الذي يليه ، وما بعد فاترة أو شبه منعدمة ، لهذا توجد في تلك المجتمعات دور لرعاية العجزة من الجيل الأول.
وخلاف ذلك المجتمعات المتدينة ، ونخص منها بالذكر المجتمعات التي تسود فيها القيم الإسلامية حيث نجد العلاقة بين الأجيال الثلاثة لا زالت على حالها من المتانة حيث تعيش هذه الأجيال في الغالب منسجمة ،حيث يحرص الجيل الثاني على رعاية بالجيل الأول، في انتظار أن يصير هو الآخر حين تتقدم به السن إلى ما صار إليه سلفه ليكون بدوره محل رعاية الخلف .
وقد يعترض البعض على هذا الوصف للعلاقة بين الأجيال الثلاثة في المجتمعات الإسلامية ، و قد يكون في اعتراضه ما يبرره حين يتعلق الأمر بما بات يغزو تلك المجتمعات من تأثير القيم الغربية العلمانية ، ولكن الغالب عليها هو استمرار تأثير القيم الإسلامية فيها . ولا يمكن بحال من الأحوال اعتبار ما يوجد من اختلاف في الذهنيات بين الأجيال الثلاثة في المجتمعات المسلمة تعبيرا عن صراع فيما بينها كما قد يحصل ذلك في غيرها من المجتمعات التي تسجل فيها قطيعة أو شبه قطيعة بين تلك الأجيال.
ومعلوم أنه في المجتعات المسلمة ليس تحديد العلاقة بين هذه الأجيال من اختيارها بل هو خيار ديني نجد له أثرا في كتاب الله عز وجل ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وسنقف عند بعضه من خلال الوقوف عند آيات من الذكر الحكيم ، وأحاديث من السنة النبوية المشرفة .
وأول ما يوقفنا في كتاب الله عز وجل هو امتنانه على الناس بنعمة العلاقة بين الآباء والأبناء والحفدة أو بين الأجيال الثالثة حيث يقول الله تعالى : (( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة )) ، وهذا الجعل الإلهي يقتضي بالضرورة أن تكون الأجيال الثلاثة متساكنة ومتواصلة قيما بينها بفعل آصرة الرحم التي تجمعها . وما جمع بينه الله تعالى فلا مفرق له إلا أن يكون هذا المفرق لا حظ له من قيم دين الإسلام أو يكون ممن تستهويه قيم الأغيار وهو محسوب على ملة الإسلام .
ويحدد الله تعالى بعد ذلك طبيعة العلاقة الواجبة بين الجيل الأول والثاني ، وهي علاقة تتكرر جيلا بعد جيل ، وقد يلحق الجيل الثالث بالجيل الثاني في هذه العلاقة الواجبة ، فيقول سبحانه وتعالى : (( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ، وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما )) ،إنها علاقة يلزم فيها الأبناء والحفدة بالإحسان بالآباء والأمهات عموما ، وعلى وجه الخصوص عندما يبلغون الكبر عندهم ، ومعلوم أن الظرف "عند " يدل على الزمان وعلى المكان في نفس الوقت ،الشيء الذي يعني مصاحبة القرب والمعية، وهو ما تنتفي قطعا معه ظاهرة إهمال الآباء ، بإحالتهم على دور العجزة أو هجرانهم في وقت يكونون في أمس الحاجة إلى العناية والرعاية . ولقد شدد الله تعالى في الحرص على تلطف الأبناء مع الوالدين حتى أنه لا يسمح لهم بمجرد التأفف منهم بله نهرهم أو ارتكاب ما فوق النهر من أنواع الإساءات الأخرى ،علما بأن هذه المعاملة معهما لا تتوقف ، ولا تسقط ولا ينقطع الإحسان إليهما حتى وإن كانا على غير دين الإسلام مصدقا لقوله تعالى : (( وإن جاهداك على أن تشرك بي فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ))
ومعلوم أن علاقة الإحسان هذه التي أوجبها الله تعالى عبارة عن خارطة طريق تحدد طبيعة العلاقة بين الأجيال الثلاثة ، وهي علاقة أخذ وعطاء بحيث يأخذ كل جيل من سابقه ، ويرد على الأخذ بالعطاء ، ويستمر الأمرعلى هذه الحال أخذا وعطاء . وهذه العلاقة هي ما يقرب بين ذهنيات الأجيال الثلاثة المختلفة سنا، ومزاجا، وطبعا، ومستوى ثقافيا ... ذلك أنها علاقة تظل حاضرة على الدوام ومهيمنة ، لهذا قد يستغرب الإنسان غير المسلم من هذه العلاقة كما كان الشأن بالنسبة لفريقنا الوطني لكرة القدم في دولة قطر حيث عبر بعض الأغيار عن إعجابهم وتأثرهم الكبير باللاعبين المغاربة ، وهم يصطحبون أمهاتهم معهم ، ويعانقونهن بحنان ودفء عند نهاية كل مباراة كانوا يخوضونه منتصرين ، وكان وراء الانتصار ذلك الدفء العاطفي .
وكخارطة طريق أيضا تحدد طبيعة العلاقة بين الأجيال الثلاثة ، نذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل فأجابه : " الصلاة على وقتها ،فقال ابن مسعود ثم أي ؟ فقال له: بر الوالدين ، ثم قال أي ؟ فقال له : الجهاد في سبيل الله " ،ففي هذا الحديث الشريف يتوسط بر الوالدين من حيث الرتبة والمكانة ما بين عبادة الصلاة، وهي صلة وعلاقة خاصة ، ومباشرة بالله تعالى و بين عبادة الجهاد وهو أعظم تضحية يمكن أن يقدمها الإنسان رغبة في محبة الله تعالى وفي رضاه ، ولذلك حدث أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة بتقديم بر والديه على الخروج إلى الجهاد قائلا له : " ففيهما جاهد " ، ومما ترتب عن هذا الحديث الشريف أن كل من أقعده عن فريضة الجهاد برّ الوالدين وهما في حاجة ماسة إليه عن الجهاد فضل برّهما خروجه مجاهدا، وفي هذا ضمان وصيانة لعلاقة الأجيال في الإسلام .
وأخيرا نؤكد على أن الوازع الديني عندنا هو الدافع إلى هذه العلاقة التي يجعلها من صميم ما تعبدنا به الله عز وجل من عبادات ، وقد قضى سبحانه وتعالى أمرا بعبادته و قرنها بعبادة الإحسان إلى الوالدين .ومعلوم أنه عن هذا الإحسان تنبثق كل أنواع الإحسان إلى كل المؤمنين، لأن المجتمع المسلم تعتبر فيه الأسرة نواته الصلبة، وهي مصدر صلاحه إذا صلحت ، وعليها ينطبق وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جعل صلاح مضغة القلب في الإنسان سببا لصلاح الجسد كله ، وإن الأسرة بالنسبة للمجتمع هي بمنزلة القلب بالنسبة للجسد .
ومعلوم أن من يعقّ والديه ، ويسيء معاملتهما، لا يستغرب منه أن يكون تصرفه أسوأ مع غيرهما ممن هم في سنهما لغياب الوازع الديني عنده ، كما أن من يبرّهما ويحسن صحبتهما يستحضر أو يحضره دائما برّهما حين تعامله مع غيرهما ممن هم في سنهما من الغرباء .
وسوم: العدد 1015