( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد )
من حكمة الله عز وجل وهو أحكم الحاكمين، أنه يري الإنسان الأدلة والبراهين والحجج الملموسة والمحسوسة في كل الآفاق المحيطة به كي يستوعبها ويستيقنها عقله، فيقتنع بأنه مخلوق له من ضمن مجموع ما خلق سبحانه وتعالى، مصداقا لقوله تعالى : (( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق من ربهم )) ، وأنه خلق لغاية ابتلائه في الحياة الدنيا ، وهو ابتلاء يتعلق بمدى قياس التزامه بالعبودية له، عبودية إنما تكون في مستوى ما أحاطه به من نعم لا يحصيها عد، وهي تستوجب منه شكرا يكون باستعمالها في طاعته التي هي عبادته، وتكون عبارة عن إقرار له بالألوهية ،والربوبية، وبالتوحيد الذي لا يشوبه أي نوع من أنواع الشرك سواء كان ظاهرا أم كان خفيا وملتويا، مصداقا لقوله تعالى: (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين )).
ولقد تكرر وتعدد في القرآن الكريم ذكر الرزق الذي تعهد به الله عز وجل للإنسان ومداره أن يرسل الرياح، فتثير السحاب، فيركم بعضه فوق بعض ثم يكون ماء ينزل من السماء على الأرض، فتنبت ما يطعمه الإنسان ، وما تطعمه كل المخلوقات التي تحيط به بما فيها تلك التي تكون جزءا من طعامه من الأنعام ، ومن الآيات الكريمة الدالة على هذا الرزق قوله تعالى : (( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسافا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم لمبلسين )) ، وقوله تعالى : (( فلينظر الإنسان إلى طعامه إنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم )) .
ولقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن ينزل من السماء ماء بقدر مصداقا لقوله تعالى : (( وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين )) ، وقد جاء في كتب التفسير أن المقصود بلفظة " قدر " تعيين المقدار في الكم ، وهي كذلك كناية عن الضبط و الدقة والإتقان .
ومعلوم أن بسط الرزق للناس يكون سببا في بغيهم وطغيانهم، لهذا ينزل لهم الله تعالى الماء بقدر ، مصداقا لقوله تعالى : (( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير )) ،علما بأن من نقائص الإنسان أنه إذا استغنى طغى مصداقا لقوله تعالى : (( إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى )) ، والله تعالى يواجه طغيانه حين يستغني حين يبسط الرزق له على قدر معلوم بابتلائه بقبضه كي يرعوي عن طغيانه كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى عن طغيان آل فرعون بقوله : (( ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يرجعون )) ، وهذا الأخذ هو سنة الله عز وجل الماضية في الخلق كلما أطغاهم استغناؤهم بما يبسطه لهم من رزق .
ومعلوم أن ابتلاء الله تعالى الخلق بنقص من الثمرات يكون على وجهين : وجه الابتلاء ، ووجه الانتقام ، أما الوجه الأول، فيتعلق بعباده المؤمنين مصداقا لقوله تعالى : (( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )) ، وأما الوجه الثاني، فهو كمثال ما أصاب آل فرعون، و هو قد يصيب أمثالهم في كل زمان ومكان حتى تقوم الساعة .
والمؤمنون حين يبتلون بنقص من الثمرات والذي يكون بسبب انحباس المطر، يتمنون أن يكون ذلك ابتلاء وليس انتقاما ، وهم غالبا ما يذهب تفكيرهم حين ينحبس عنهم المطر إلى أنهم مذنبون ، ولهذا يسيطر عليهم اليأس الشديد الذي تكون شدته بقدر طول مدة انحباس المطر عنهم ، ولكن الله عز وجل يتداركهم برحمته وهم على تلك الحال من اليأس الشديد، فيغيثهم بالسقيا في آخر لحظة مصداقا لقوله تعالى : (( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد )) ، والغيث كما قال المفسرون هو المطر النازل بعد جفاف وقحط يقنط بسببه الناس ، والقنوط شدة اليأس مع السخط . ولقد جاء فعل إنزال الله تعالى الغيث في صيغة المضارع الدال على الاستمرار والدوام مقابل فعل القنوط الذي جاء بصيغة تدل على مضي لأنه يزول بفعل النزول غيرالمنقطع ، ونزول المطرهو من رحمة الله عز وجل بالناس، وهم في حالة إبلاس وإياس مصداقا لقوله تعالى : (( وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين ))، وهذه الرحمة تنقل الناس من حال اليأس الشديد إلى حال الاستبشار (( إذا هم يستبشرون )) ، والاستبشار عبارة عن عودة إلى التعلق بالأمل بعد اليأس، وهو تيمن وفرح .
ولقد ذيل الله تعالى كلامه عن إنزال الغيث بعد قنوط الناس بصفتين من صفاته المثلى بقوله سبحانه وتعالى : (( وهو الولي الحميد )) الولي الذي يتولى الخلق بإحسانه، ولا ولي لهم غيره ، وهو بذلك مستحق للحمد والثناء ، ولا يحمد ولا يثنى على سواه عن الإغاثة بعد يأس ، وحكم القنوط الذي يكون بسبب انحباس المطر ينسحب على كل أنواع القنوط الأخرى كالقنوط من مرض أو من فاقة أو من خسارة أو ظلم نازل بالمظلوم ... إلى غير ذلك مما يسبب اليأس الشديد من مصائب .
مناسبة حديث هذه الجمعة أننا أمطرنا بعد انحباس المطر عنا مدة من الزمان ،وكنا نترقبه في هذا الفصل ، ويجدر بنا وقد أغاثنا الله تعالى ، ونحن ننتظر منه وهو الولي الحميد المزيد من فضله ونعمه أن نراجع أنفسنا ، ونعود ونؤوب إليه تائبين مستغفرين شاكرين نعمة الغيث ليزيدنا من فضله ، وهو الذي تعهد سبحان الشاكرين بمزيد إنعام مصداقا لقوله تعالى : (( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد )) ، فهذا إعلام منه سبحانه وتعالى بأن زيادة الإنعام منه يكون بالشكر ، وأن زواله، وهو في حد ذاته عذاب يكون ب سبب كفرانه .
ولا بد ههنا من تحذير كثير من المؤمنين من نوع من أنواع كفران إنعام الله تعالى ويكون بنسبة إنعامه إلى غيره من الخلق ، وهو مما حذر منه عز وجل، كما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الشريف حيث خطب عليه السلام على إثر سماء أي بعد نزول غيث ذات ليلة، فقال لمن حضر خطبته : " أتدرون ماذا قال ربكم ؟ قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب " ، ويقاس على قول المؤمنين بالكوكب كل قو تنسب نعمه سبحانه وتعالى ورحمته إلى غيره من المخلوقات ،كما يفعل بعض الناس، فيصدر عنهم من الأقوال حين يمطرون ما يقصدون به على سبيل المثال أنهم قد أمطروا ببركة أولياء صالحين هالكين مع أن تزكية الخلق من اختصاص الله تعالى ، وهو وحده العالم بهم وهو القائل : (( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء )) ، وقد يقصدون أضرحتهم طلبا للسقيا ، ويذبحون عندها الذبائح ، ويجدون من يسوغون لهم ذلك الفعل ، ويقنعونهم بأنه لا بأس به، وأنه من التدين ، وهومما يجب أن يكون إذا انحبس المطر مع العلم أن الله تعالى سن لنا صلاة استسقاء يقصد بها وحده دون شركاء .وهناك نوع آخر من الناس يتابعون تنبؤات أحوال الطقس ، وهم يظنون أنها المسببة لنزول المطر ناسين أو غافلين عن المعطي والمنزل له سبحانه وتعالى ، وقد يجزمون بقين تلك التنبؤات دون أن يستحضروا إرادة الله تعالى ،وهم بذلك بمنزلة من كانوا يزعمون أنهم يمطرون بالكواكب . ومع أن الله تعالى يقول وقوله الحق : (( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا )) ، فإن هؤلاء يتحدثون عن كسب بينهم وبينه أيام وليس يوم واحد يكون في غد ، ورب سحب ماطرة يجزمون بأنها ستصيبه، فإذا هي منصرفة عنهم بإرادة وقدرة الله تعالى الذي يصيب بها من يشاء ، ويصرفها عمن يشاء .
اللهم إنا نبرأ إليك من نسبة نعمك التي أنعمت بها علينا إلى أحد من خلقك . ونستغفرك ونتوب إليك من ذلك إن وقع منا شيء منه ونحن غافلون ، ونسألك أن تزيدنا من فضلك ، وتقبل منا شكرنا لك على ما أنعمت به علينا . اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا ، ولا بما فعله السفهاء منا . اللهم بارك لنا فيما أنزلت لنا ، وأنبت لنا به الزرع الوفير ، وأحيي لنا به الضرع الغزير ، واجعل كل ذلك لنا عونا على طاعتك وحسن عبادتك ، ولا تجعله لنا وسيلة إلى الطغيان والجحود والكفران.
والحمد لله الذي تتم به الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1016