( قل إن هدى الله هو الهدى )
من المعلوم أن الله عز وجل قد حسم في أمر ظهور دينه على الدين كله مصداقا لقوله عزمن قائل : (( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )) ، كما حسم في كون الهدى إنما هو هداه مصداقا لقوله عز من قائل : (( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير )).
أما ظهور دينه سبحانه وتعالى، وهو دين الإسلام كما جاء في الرسالة الخاتمة للعالمين إلى يوم الدين ،فقد أكده قوله تعالى فيها : (( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه )) ، ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى تصديق ما أنزل من كتب من عند الله عز وجل قبل نزول القرآن الكريم مما هو تشريع لم يختلف عما في جاء القرآن الكريم ، مع نسخ ما كان تشريعا خاصا بمن أنزلت إليهم الكتب السابقة ، ومع الكشف عن كل تحريف نالها كما أشار إلى ذلك الله تعالى في قوله : (( من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه )) ، وبهذا كانت له الهيمنة ، فهو المحقق والمقرر والجازم .
وبهذه النصوص القرآنية الثلاثة السالفة الذكر يرسم الله تعالى للبشرية إلى قيام الساعة الإطار الذي يجب عليها ألا تخرج عنه، وهو الالتزام بهداه أو بهديه الذي ضمّنه في الدين الحق وأظهره على الدين كله ، وحذّر نبيه صلى الله عليه وسلم ومن خلاله حذّر كل المؤمنين من اتباع كل هوى قد يقع به الزيغ عن هذا الدين الحق المتضمن لهداه سبحانه وتعالى.
ومن تلك الأهواء نذكر على سبيل المثال لا الحصر ما بات يعرف " بالديانة الإبراهيمية " التي يزعم من ابتدعوها أنها تجمع بين الديانات السماوية الثلاث اليهودية، والنصرانية ،والإسلام على اعتبار أنها كلها تقر بنبوة إبراهيم الخليل عليه السلام السابق عليها كلها ، وفي الرجوع إليه، وتغليب اسمه على أسماء الرسل بعده على حد زعمهم يحصل توافق بين أتباع تلك الديانات ، ويحسم الخلاف العقدي بينهم ،علما بأن الإسلام يقر برسالة ونبوة موسى وعيسى عليهما السلام ،في لا يقر أتباعهما بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خلافا لما جاء في كتاب الله تعالى كقوله : (( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يديّ من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد )) ، ففي هذا النص القرآني تكذيب لمنكري ورود ذكر نبوة و رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل ، لأن المسيح عليه السلام صدّق ما أنزل على موسى عليه السلام بما في ذلك البشارة التي بشّر بها قومه والمتعلقة بآخر وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم .
والإشكال الذي يواجه أصحاب ما سمي " بالديانة الإبراهيمية " هو إنكار اليهود والنصارى نبوة ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إذ كيف سيقبل المسلمون وهم الذين لا ينكرون نبوية ورسالة موسى وعيسى عليهما السلام إنكار نبوة ورسالة رسولهم صلى الله عليه وسلم ؟ وكيف يمكن إقناعهم بقبول قسمة ضيزى كهذه ؟
وإلى جانب هذا الإشكال يوجد إشكال آخر، وهو كون القرآن الكريم يصرح بإسلام إبراهيم الخليل عليه السلام ، وينفي عنه اليهودية ،والنصرانية كما جاء في قوله عز من قائل : (( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين )) ، وهذا ينسف الديانة الإبراهيمية المبتدعة من أساسها، لأن اليهود والنصارى لا يقرّون بإسلام الخليل عليه السلام ، وقد جادلهم الله تعالى في ذلك بقوله : (( أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون )) ، وبقوله أيضا : (( يا أهل الكتاب لم تحاجّون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ))، فأنى يجتمع اليهود ،والنصارى، والمسلمون في "الديانة الإبراهيمية" المزعومة وهم على هذا الخلاف العقدي الكبير بحيث ينسف اعتقاد كل منهم اعتقاد الآخر من أساسه ؟
هذا بخصوص الديانة المزعومة التي يسوقها بعضهم تسويقا وراءه دوافع سياسية معلومة علما بأن الاعتقاد لا يمكن أن يخضع لما هو سياسي ، أما بخصوص ما يسمى" بالمواثيق الدولية " المتعارضة مع الشريعة الإسلامية ، وهي تشريعات علمانية فرضها الغرب بحكم قوته الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية، فإنها هي الأخرى تواجه المسوقين لها في البلاد الإسلامية بإشكال كبير أيضا ،لأنهم يقترحونها كبديل عن شرع الله عز وجل في أمور حسم فيها هذا الشرع بنصوص قطعية ، وقد أشار الله تعالى في كتابه الكريم إلى قوم سبقوا هؤلاء العلمانيين وكانوا هم أيضا يطالبون بتعطيل آيات الذكر الحكيم فقال جل من قائل : (( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون )) ، وهم لا يقصدون بطبيعة الحال مجرد السماع ،بل يقصدون السماع المفضي إلى الاعتقاد به وبما يترتب عنه من تشريع ، وهي نفس المقولة التي يكررها اليوم العلمانيون عندنا حين يقدّ"مون" المواثيق الدولية "على نصوص القرآن الكريم ونصوص السنة النبوية المشرفة في أمور محسومة تشريع لا تقبل بديلا عنها في تلك المواثيق العلمانية ، ولا يستطيع أحد مهما كان أن يحل ما حرمت أو يحرم ما أحلّت .
وعلى غرار مسوقي الديانة الإبراهيمية، نجد أن الدافع السياسي هو ما حمل مسوقي" المواثيق الدولية" على تسويقها بإلحاح كبديل عما شرع الله عز وجل .
وفي الأخير نقول لهؤلاء، وهؤلاء اعتقدوا ما شئتم خصوصا وأنه لا أحد يمنعكم من ذلك وأنتم أحرار فيه ، ولكن ليس لكم الحق أن تفرضوا ما تعتقدونه على من يخالفكم الاعتقاد ، واعلموا أن عقلية إقصاء من يخالفكم المعتقد، يكون أول ضحاياها هم أصحابها .
وسوم: العدد 1021