( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر )
من المعلوم أن الله تعالى لما اقتضت إرادته أن يبتلي الإنسان في الحياة الدنيا ليجازى عن ذلك في الآخرة فقد مكنه من كامل حريته وإرادته في اختيار مصيره الأخروي بعدما حدده له الخيار بين مقامين لا ثالث لهما وهما : مقام خلد في النعيم ، أو مقام خلد في الجحيم .، وبيّن له السبيلين المفضيين إليهما وهما: سبيل الهداية أو سبيل الضلال .
ولقد استعرض القرآن الكريم ما كان من حوار بين جميع المرسلين وبين أقوامهم الذين بعثوا فيهم ، وكان مدار هذا الحوار هو الترغيب في الهداية ، والتحذير من الضلال . وانتهى أمر ذلك الحوار في الرسالة الخاتمة إلى ما انتهى إليه في كل الرسالات السابقة لها حيث أمر الله عز وجل نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أن يبلغ عنه إلى العالمين وعده ووعيده ، ومما جاء من وعيده قوله تعالى : (( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا )) ، ففي هذا النص القرآني أمر الله تعالى رسوله بقول الحق الذي كلفه بتبليغه مع الإشارة إلى حرية الخلق الكاملة في الاختيار بين الانصياع إليه أو الإعراض عنه والميل مع الباطل ثم جاء بعد ذلك وصفه سبحانه تعالى لمصير من تذهب مشيئتهم إلى الكفر باعتباره باطلا وهو ظلم بعد أن يعرفوا الحق معرفة يقين . وهذا المصير المشؤوم إنما هو نار ملتهبة لها سرادق أو خندق يحيط بها للمنع من الخروج منها ، وإذا ما استغاث من يدخلها ، فلا مغيث ، وإذا اصطلى بحرها واستغاث بشراب يبرد عنه شيئا منه كان شرابه كالمهل التهابا وهو يشوي الوجوه، فكيف يكون حال الأفواه معه ؟ ولا شك أن شرابا بهذا الوصف في نار ملتهبة ،وحولها سرادق مانع من الخروج منها ،هو منتهى العذاب وأشده ،وشرابه بئس الشراب ،ومرتفقه بئس المرتفق ، وحسب من يختار الكفر أن يكون هذا المصير بهذا المشهد المرعب رادعا له عن كفره .
ولا شك أن البشر إلى نهاية العالم، إنما هم فريقان : فريق تكون مشيئته الإيمان ، وآخر تكون مشيئته الكفر ، وكل فريق يعلم علم اليقين المصير والمآل المنتظرين وفق ما تكون عليه مشيئة كل منهما وقد أعطيا الحرية الكاملة فيهما . وكل ما يلزم أهل الإيمان أن يقولوا الحق ، وليس لهم شأن أو دخل في مشيئة من لا يقبله كما أمر الله تعالى بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن خلاله أمر كل المؤمنين إلى يوم الدين .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بما يلزمهم من التزام قول الحق دون مجاراة الذين لا يقبلونه فيما يقترحونه عنه من بدائل الباطل ، وألا تكون لهم هوادة في ذلك أو تراخ ، ولا يحق لهم التنازل عن بعض هذا الحق انصياعا لضغوط أورغبات أهل الباطل ، وإن التزام الحق إنما هو التزام بما جاء في كتاب الله عز وجل ،وما جاء في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وإننا لنرى اليوم فيها بعض أنصار الباطل يجادلون به أهل الحق من أجل أن يفسح المجال لباطلهم على حساب الحق ، وإنهم ليستعينون في ذلك على استيراد الباطل من أهله وهم يستقوون بهم ، ويعتبرون ما يقررونه منه ملزما ،وهوعندهم معيار كوني لا مناص لأحد منه . وإن البعض من أهل الحق ليحاولون التنازل عن بعضه كي يظهروا لأهل الباطل مرونة ،وتفهما حسب اعتقادهم وهم في الحقيقة قد انجروا إلى باطلهم مستخفين بعواقب ذلك مع أن الله تعالى منع الركون إليهم بأشد تحذير حيث قال سبحانه وتعالى : (( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار )) ،وما ذلك الظلم سوى خيار مخالفة الحق، والميل مع الباطل ، وما تلك النار سوى ما أعد الله تعالى للظالمين من أصحاب خيار الباطل .
وقد يستخف بعض أهل الحق ببعض أنواع الباطل التي ينادي بها أهله ، ويعتبرونها هينة، وهي عند الله عظيمة ، لأنها تقدم لهم على أنها مما يفرضه الواقع اليوم، وهي فواحش ومنكرات تزين للناس لمجرد وجودها وشيوعها عند الأغيار من أهل الكفر الذين صاروا في هذا الزمان محط أنظار المستلبين من ضعاف الإيمان بهم يقتدون لما صار لديهم من قوة ، ويحذون حذوهم شبرا بشبرا وقد دخلوا خلفهم جحر الضب المنتن ، وهو ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
اللهم إنا نسألك الثبات على الحق لا نحيد عنه قيد أنملة ، ولا طرفة عين ، ونعوذ بك من الركون إلى الباطل وأهله ، ومن شر ما أعد لهم .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1022