( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم )
بداية لا بد من الحسم في أمر كمال الدين في الرسالة الخاتمة التي وجهها الله تعالى للعالمين إلى قيام الساعة مصداقا لقوله عز من قائل في آخر ما نزل من الوحي : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )) . وبناء على هذا يعتبر كل ما شرع الله تعالى في هذه الرسالة الخاتمة موصوفا بالكمال ، ومنزها عن العيب والنقصان ، وكل جدال في هذا الأمر مردود على أصحابه ، ولا طائل من الخوض معهم فيه ،وهم على اعتقاد ضال بأن شرع الله تعالى الذي شرعه لخلقه قد يحتمل العيب والنقصان ، وأنه بالإمكان تدارك نقصانه ، وتصحيح عيبه .
ومن كمال دين الإسلام ، وتمام النعمة على الخلق بكماله ما شرع الله تعالى بخصوص الأحوال الشخصية نكاحا وطلاقا وما تعلق بهما من أمور خاصة بهما . ولقد صحح شرع الله تعالى ما كان يعتري هذه الأحوال من خلل قبل نزول القرآن الكريم عند العرب في جاهليتهم .
وأهم ما جاء في شأن إصلاح هذه الأحوال قوله تعالى في سياق الحديث عن النساء : (( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم )) ، ففي هذه الآية الكريمة تشريع عظيم لا يرقى إليه تشريع وضعي مهما كان، لأنه يتميز بعدل الله تعالى مصداقا لقوله عز من قائل : (( وما الله بظلاّم للعبيد )) ، بينما العبيد لا يؤمن تظالمهم فيما بينهم ، ولهذا لا يمكن أن يسد مسد التشريع المنصوص عليه في هذه الآية الكريمة تشريع وضعي مهما كان .
وتبدأ هذه الآية الكريمة بحقوق النساء قبل واجباتهن كما بيّن ذلك تركيبها اللغوي والأسلوبي حيث تقدم إلحاق حرف "اللام" الدال على الملكية بالضمير العائد عليهن ، وتأخر عنه حرف "على " الدال على المسؤولية . والمثير للانتباه في هذه الآية الكريمة أن ذكر حقوق النساء يدل بالضرورة على واجبات الرجال ، وأن ذكر واجباتهن يدل بالضرورة أيضا على حقوق الرجال ، وهذا معنى ذكر المماثلة ببينهم فيها، إلا أن المماثلة لا تعني التطابق بل تعني التشابه ، وهذا الأخير يكون بين ما تشابه من الأمور، والأحوال، والأشياء، والأشخاص... من وجوه دون أخرى، لأنه إذا ما وقع التشابه من جميع الوجوه كان ذلك تطابقا . وقول الله تعالى بعد ذلك : (( وللرجال عليهن درجة )) يؤكد أن التماثل لا يمكن أن يكون بين النساء والرجال في كل أمر . و معلوم أن الدرجة هي كل ما يرتقى عليه نحو الأعلى ، ونقيضها الدركة ، وهي ما ينزل به إلى الأسفل ، وعليه فمن يرقى السلم يتقدم درجات ، فإذا نزل منه يتأخر دركات .
ولا يمكن بحال من الأحوال إقحام موضوع المساواة بين النساء والرجال عند الحديث عمّا لكل جنس من حقوق ، وما عليه من واجبات ، والمعتبر في هذه المساواة أن بداية خلقهم كانت من نفس واحدة ، وأنهم سواسية في التكريم الوارد في قوله تعالى : (( ولقد كرمنا بني آدم )) ، أما المساواة في غير ذلك ،فأمر غير ممكن نظرا لما جعل الله تعالى لكل جنس من هيئة معلومة ، وهو ما يميزهما ، وذلك تمايز لا يمكن حمله على تفضيل طرف على آخر خلقة وجبلة بل هو تمايز يفيد اتصاف كل منهما بما يناسب خلقته وجبلته ، واختلاف الخلقة والجبلة يقتضي أن يكون بينهما تفاوت حيث يفوت كل منهما الآخر بما ليس له أو عنده .
وبناء على ذلك فالدرجة التي للرجال على النساء هي ما تقتضيه خلقتهم وجبلتهم من واجبات تقابلها حقوق ،ذلك أن الرجال خلقهم الله تعالى على هيئة ميزتها القوة البدنية المقتضية لطبيعة نفسية خاصة بها ،الشيء الذي يلزمهم باستعمالها وتوظيفها في خدمة النساء ، لذلك كانت لهم القوامة مصداقا لقوله تعالى : (( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم )) ، فهذا التفضيل هو إشارة إلى الدرجة التي للرجال على النساء لأنهم يتولون حمايتهن و رعايتهم وإعالتهن ، والنصح والتوجيه لهن ... وكل ما تعنيه القوامة من تكليف قبل أن تكون تشريفا . و واجب القوامة المفروض على الرجال يوجب لهم حق طاعة النساء لهم ، وفي ذلك مصلحة مشتركة بين الطرفين ، لا يصح أن يخوض الخائضون في تضاربها بقولهم أن فيها مظلمة النساء ، ذلك أن شرع الله تعالى جعل لهن القوامة حقا ، وفرض عليهن الطاعة واجبا ، كما فرض على الرجال القوامة واجبا ، وجعل لهم الطاعة حقا .ولا نحتاج إلى التذكير بما للرجال من درجة على النساء، وقد اصطفى الله تعالى منهم الرسل والأنبياء صلواته وسلامه عليهم ، وجعلهم أئمة في الإمامة العظمى ، وإمامة عبادة الصلاة ، وما أو جب عليهم من جهاد ... إلى غير ذلك مما يناسب طبيعتهم الذكورية دون أن يعني ذلك أن النساء دونهم في الكرامة التي خص بها سبحانه وتعالى الجميع دون تمييز .
وإذا ما عدنا إلى تأمل الآية الكريمة : (( ولهن ما عليهن بالمعروف )) ،نجد أن كلمة معروف تطلق على الحق الذي تعرفه الفطرة البشرية السوية بالعقل الذي أودعه الله تعالى في الإنسان ، ويقابله الباطل الذي تنكره ، وهذا يعني أن ما يجب على النساء من واجبات ، وما يكون لهن من حقوق يلزم أن يكون في إطار المعروف أي يكون حقا قد شرعه الله تعالى الذي أكمل الدين، وأتم النعمة على الخلق بكماله ، ومن كماله ، كمال شرعه ، لهذا لا مبرر في ظل شرعه المنزه عن الظلم الحديث عن العيب أو النقص ،وادعاء السعي نحو تسديد عيبه ، وتكميل نقصه كما يزعم البعض .
ولقد كانت النساء في الجاهلية لا يمكنّهن الرجال من حقوقهن ، فجاءت هذه الآية الكريمة لتبطل الباطل المنكر الذي كان الرجال يعاملون به النساء في الجاهلية ، ولتحل محله حقوقهن بالمعروف ، وصار ذلك تشريعا إلهيا للعالمين إلى يوم الدين. وكل تشريع وضعي يزعم واضعوه أنه بديل عن شرع الله عز وجل، فهو باطل إلا ما وافقه .
ولقد ذيّل الله تعالى الآية الكريمة التي صانت حقوق النساء والرجال على حد سواء بقوله : (( والله عزيز حكيم )) ، وعزته إنما هي قدرته ،وقوته القاهرة لكل من خالف إرادته وشرعه ، و هي عزة ترافقها حكمته التي هي معرفته وعلمه بكل ما بخلق وبكل ما يصلح للخلق أفضل علم ،وأفضل معرفة ، ولهذا فإن ما شرعه للخلق في الأحوال الشخصية هو بالضرورة لصالحهم ، وهو من تجليات عدله ورحمته سبحانه وتعالى، ومن حسن تقديره وتدبيره .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بحقوق النساء والرجال على حد سواء في الإسلام خصوصا وقد حلت مناسبة عيد المرأة الذي يستغله من ليسوا على ديننا للطعن فيه زاعمين أنه يهدر حقوق النساء ويحيف عليهن ، وهو افتراء وكذب على الله عز وجل، وعلى رسوله الأمين في تبليغ رسالته صلى الله عليه وسلم . ويجدر بكل المؤمنات أن يحترزن من الوقوع في مثل هذا الافتراء الباطل الذي هو تكذيب لما جاء في كتابه الكريم الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه ، وفي ما صدقه من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعليهن أيضا ألا يعرضن عن شرعه ، ويلتمسن في غيره من القوانين الوضعية بديلا عنه إلا ما كان موافقا له من تلك القوانين .
اللهم بصّرنا بعدل شرعك ، وارزقنا الرضا بما شرعت لنا، فإنه عدل فينا قضاؤك ،ولك الحمد سبحانك الحمد الكثيرعلى ما شرعت وقضيت ، ورضّينا اللهم بك ربا لا شريك لك في ملكك وقضائك ، ورضينا برسولك عليه أفضل الصلوات وأزكى السلام هاديا، ومرشدا، وسراجا منيرا ، ورضينا بدينك دينا قيما لا عوج له ، اللهم اغفر لنا وارحمنا ، وتجاوز عنا ، ولا تؤاخذنا بجهل أو سفه فينا .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1022