( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما )
من المعلوم أن الله عز وجل الذي كرم بني آدم، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلا ، قد اختار لهم بموجب هذا التكريم ، وهذا التفضيل أن يكونوا مؤمنين به لتنزيه أنفسهم عن الكفر والشرك والنفاق . والإيمان بالله تعالى على الوجه الأكمل ،يترتب عنه كمال الأخلاق ، وهو من التكريم والتفضيل أبضا .
وقد يتعرض الإنسان المؤمن للظلم سواء من طرف أعداء دينه من كفار، ومشركين، ومنافقين ، ولا يمكن أن يكون الظلم الواقع عليه مما يمس بكرامته التي كرمه بها الله عز وجل ، ولا بالأفضلية التي فضله بها ، لهذا شرع له سبحانه و تعالى أن يجهر بما يرفع عنه الظلم من القول ردا على السوء من القول ، علما بأن الله عز وجل يكره الجهر بالسوء من القول كما جاء في قوله عز من قائل : (( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما )) ، وقد جاء هذا النهي الإلهي عن الجهر بالسوء من القول بعد كلام سابق عن المنافقين الذين كانوا يؤذون المؤمنين ، ويظلمونهم . ومنعا لرد فعل من المؤمنين على ظلم هؤلاء المنافقين لهم ، فإن الله تعالى ضبط تصرفهم بالنهي عن الجهر بالسوء من القول إلا إذا قام دليل على وقوع الظلم عليهم ، وحينئذ يجوز لهم أن ينتصروا لأنفسهم، ولكن دون الخروج عن أخلاق الإسلام بالقول الفاحش ، أو بالقذف ..أو غير ذلك مما ينهى عنه شرع الله تعالى ، وحدود الانتصار من الظلم أن يكشفه ويفضحه المؤمن المظلوم ليعلمه الناس . ولقد ورد في كتب التفسير أن سبب نزول هذه الآية الكريمة أن بعض الصحابة وصفوا رجلا في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفاق ، فنهاهم عن ذلك عليه الصلاة والسلام قائلا لأحدهم : " لا تقل ذلك ألا تراه قد قال : لا إله إلا الله ، يريد بذلك وجه الله ، فقال القائل : فإننا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين " .
ولما كانت العبرة بعموم لفظ هذه الآية لا بخصوص سبب نزولها ، فإن حكمها سائر على كل المؤمنين إلى قيام الساعة ، ومقتضى حكمها هو الانتهاء عن الجهر بالسوء من القول إلا إذا وقع الظلم على المؤمن ، فله أن ينتصر لنفسه في حدود ما وقع عليه من ظلم دون تجاوز ذلك إلى ظلم أقبح منه. وفي هذا الاستثناء صيانة لكرامة المؤمن المظلوم ، ودفاع عنه ، وانتصار له حتى لا يتجاسر أحد عليه ،سواء كان من أهل الكفر، والشرك، والنفاق أو كان ممن طوعت له نفسه الظلم وهو من أهل الإيمان .
وترخيص الله تعالى للؤمن المظلوم بالرد على من ظلمه بما يناسب سوء القول في حقه ، والانتصار بذلك لنفسه دون أن يتجاوز ذلك إلى ما لا يرضاه له خالقه سبحانه وتعالى، وينهاه عنه الشرع . وفي هذا الترخيص ما يمنع الانتقال من الرد بالقول إلى الرد بالفعل، خصوصا وأن النفس البشرية مجبولة على الإباء ، وتغلبها عاطفة الغضب حين تستغضب ، وقد تجعلها سورة الغضب تتجاوز حد الرد على الظلم الواقع عليها بما ليس عدلا وانتصافا ، وحتى تلتزم العدل في الرد على السوء بالقول ، فإن الله تعالى ذيل الآية الكريمة بقوله جل وعلا : (( وكان الله سميعا عليما )) أي يسمع قول الظالم ، ورد المظلوم عليه ، ويعلم نيتهما ، وما يخفي صدر كل واحد منهما .
ومباشرة بعد ترخيصه سبحانه وتعالى للمظلوم بالرد على ما يقع عليه من ظلم سوء القول ، فإنه رغب سبحانه وتعالى في العفو فقال جل من قائل : (( إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا )) ، وفي هذا ما يرغب من يقع عليه الظلم في العفو على من ظلمه مع القدرة على الانتصار تشبها بالله تعالى العفو القدير ، وهو سبحانه يريد لعباده المؤمنين التخلق بجميل الأخلاق وكمالها ، ومن جميلها وكمالها العفو عند المقدرة .
ومعلوم أن المنتصر بعد ظلم وقع عليه لا يلام على ذلك ، وقد رخص له الله تعالى الانتصار لنفسه ، إلا أنه إذا عفا وقد قدر على الرد على ظالمه ، فإنه يرقى ويسمو إلى مكارم الأخلاق التي يحبها الله تعالى ويحببها لعباده المؤمنين .
مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تذكير المؤمنين بما ارتضاه لهم الله تعالى من سمو الأخلاق وكريمها حين يؤذون ، أو يظلمون ، فهم إما أن ينتصروا لما يقع عليهم من ظلم سوء قول بما يصون أخلاقهم وهم يردون على ذلك وينتصرون، أو يختاروا السمو الأخلاقي بالإعراض عن من ظلمهم أو بالعفو عنه إذا قدروا عليه .
ولقد وقع خلال الأسبوع المنصرم أن غضب أحد صحافينا الفضلاء لسوء قول مس أعراض محصناتنا الفضليات ،وهي إساءة قد صدرت عن سفهاء في إحدى قنوات جيراننا بالجزائر ، فرد على الإساءة بما كفله له شرع الله عزوجل وبما يحقق الانتصار لكرامة نسائنا إلا أن من يدير قناة الجزيرة جار عليه حيث طالبه بحذف أو تعديل رده على تلك الإساءة ، وربط رفض الانصياع لذلك بعقوبة تسريحه من عمله الصحفي ، وهذا ابتزاز صارخ ومذمة تشوه سمعة القناة ، وميل عن الحق والعدل ، وانحشار في صف من بدءوا بالظلم ، وهو أقبح وأشنع الظلم لما فيه من قذف للمحصنات من المؤمنات ،علما بأن القذف يوجب لعنة الدنيا والآخرة . ولقد وجبت هذه اللعنة لمن قذف المحصنات من نسائنا ، في القناة الجزائرية ، ووجبت أيضا لمن ساندهم في ذلك بمنع الرد المشروع عليهم .
وإن من مواطني الجزائر من ينصاع إلى أوامر من يحكمهم من القادة المتهورين فيطلقون ألسنتهم بسوء القول الذي يكرهه الله تعالى ، وهم يحسبون على الإسلام ـ يا حسرتاه ـ ومن هؤلاء صحفيون ومنهم من يعملون بقناة الجزيرة التي لايمنعهم من يديرها من الإساءة إلينا ، وإلى أعراضنا .
اللهم إنا نسألك أن تلهمنا السداد في القول والعمل ، ونسألك أن تلهمنا الرد على من ظلمنا بما يرضيك ، وترضاه لنا من القول ، ونعوذ بك من الجهر بالسوء من القول ، ونسألك أن تلهمنا الصبرعلى الظلم ، وأن تلهمنا العفو على من ظلمنا ، واجعلنا اللهم نحتسب أجر ذلك عندك سبحانه .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1036