( قل نزّله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين )
مما قصّه علينا القرآن الكريم، ظاهرة تكذيب رسل الله صلواته وسلامه عليهم أجمعين . وما من رسول إلا ووجد فيمن بعث فيهم من يكذبه ، ويصفه بما لا يليق به من نعوت لا تليق بمقامه العظيم عند الله عز وجل . ولم يكن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل ، ولذلك ناله تكذيب المكذبين من قومه .
ولقد كان الله تعالى يوحي إلى كل من كُذّب من رسله الكرام بما يرد به على تكذيبهم ، وذلك بحجج دامغة ، بل وبآيات أو معجزات، ليس إلى إنكارها من سبيل. ولمّا اتهم كفار قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بافتراء ما أوحي إليه ـ والافتراء هو اختلاق ، وادعاء القول الكاذب ـ فإن الله تعالى أوحى إليه الرد عليهم ردا مفحما ، ومتضمنا لبيان كيف أُنزل الوحي ، والغاية التي أنزل من أجلها ، فقال جل وعلا : (( وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزّل قالوا إنّما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزّله روح القدس من ربك بالحق ليثبّت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين )) ، ففي هذه الآية الكريمة، تسجيل لاتهام الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالافتراء ، والرد عليهم بما ينفي عنه ذلك . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول ذلك الرد تسفيها لهم ،وتكذيبا لافترائهم عليه .
وإن الذي حمل الكفار على اتهام الرسول الأعظم بالافتراء حين تبليغه الوحي، هو تبديل الله تعالى آية مكان آية ، علما بأنه سبحانه كان ينزل الوحي بعلم وحكمة منه، وكان كل ما ينزل من عنده حقا لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه ،ولهذا لا يمكن تبديل آية مكان آية أن يكون باطلا . والذي جعل الكفار يعتبرون هذا التبديل افتراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو جهلهم بحقيقة الوحي ، وقد عقب الله تعالى على قولهم بقوله : (( بل أكثرهم لا يعلمون )) لأنهم لو كان لهم علم لهداهم إلى الحق ، ولما صرفهم عنه الباطل.
ولقد كان سبب التكذيب بالوحي المنزل من عند الله عز وجل عبر التاريخ ، والسبب وراء ذلك هو الجهل بحقيقته ، وسيظل المكذبون به جهلة إلى قيام الساعة ، وإن ادعوا العلم .
ولقد جاء في كتب التفسير، أنه كان بالإمكان أن يأمر الله تعالى رسوله بأن يقول لمن اتهموه بالافتراء :" إن الوحي منزل من عند الله عز وجل" ، إلا أنه فصّل لهم القول في أمر التنزيل، وذلك بذكرالواسطة بينه سبحانه وتعالى ، وبين رسوله صلى الله عليه وسلم ، والذي هو الملك الكريم، روح القدس جبريل عليه السلام ، وفي ذلك تعظيم وتنزيه لرسوله عليه الصلاة والسلام ، وتعظيم وتنزيه للوحي بذكر الملك المقدس عليه السلام . وجعل الملك الكريم واسطة بين الله تعالى وبين ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، فيه دحض لمقولة الافتراء المتهافتة ، وإفحام لأصحابها، لأن الطبيعة الملائكية للروح القدس منزهة عن ذلك . وتلقي الرسول صلى الله عليه وسلم الوحي من الروح القدس،قد جعله أيضا منزها عن تهمة الافتراء .
ومباشرة بعد بيان مصدر الوحي جاء وصف من اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بالافتراء بأن أكثرهم جهلة لا يعلمون. ومعلوم أن الكثرة الجاهلة تؤثر في غيرها ، وتكون أكثر جرأة بسبب جهلها على التكذيب، والتشكيك فيما يكون حقا ظاهرا، وبأدلة دامغة، لا يمكن إنكارها أو الطعن فيها ، وبمنطق قوي لا يملك معه لأحد إلا التسليم بصوابه ، ذلك أن الحق المنزه عن الباطل ، والمنزل من عند الله سبحانه وتعالى، بواسطة روح القدس، الذي ينقله بأمانة باعتبار طبيعته الملائكية المنزهة عن الافتراء ، لا يمكن أن يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المعصوم إلا منزها عن الباطل .
ويأتي بعد ذلك بيان الغاية من إنزال هذا الحق ، وهي تثبيت المؤمنين ، وهداية وبشرى للمسلمين . ومعلوم أن الإيمان يعتبر درجة سابقة على الإسلام ، ذلك أن هذا الأخير هو نقطة انطلاق كل من يقبل على الدخول في حظيرة الإسلام ، ويتحقق له ذلك بخمسة أركان معلومة هي : النطق بالشهادتين بعد استقرار القناعة بهما في القلب ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج بيت الله الحرام ،مع شرط الاستطاعة . وبعد مرحلة الإسلام، ينتقل المسلم إلى مرحلة الإيمان بأركانه الستة المعلومة وهي : إيمان بالله ، وبملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره . وهذه الأركان لا تستقر إلا في قلوب مؤمنة بالغيب ، تتلقاه دون خوض فيه بما يخاض فيه غيره مما تدركه الحواس ، لهذا تتقدم مرحلة الإيمان على مرحلة الإسلام ، ولقد خاطب الله تعالى الذين أسلموا دون إدراك مرحلة الإيمان بقوله جل وعلا : (( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم )) ، وهذا يؤكد أن بلوغ درجة الإيمان إنما يكون باستقرار وتمكن أركانه من القلوب. ولهذا تزداد القلوب التي تستقر وتتمكن فيها أركانه إيمانا بكل الوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يؤثر فيها تبديل آية منه مكان آية أخرى كما حصل لمن لا إيمان لهم ، فظنوا بجهلهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ـ حاشاه ـ قد افترى ذلك . وأما المسلمون ، فإن الوحي يكون لهم هداية إلى بلوغ درجة الإيمان ، ويكون في نفس الوقت بشرى لهم . ولقد جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر درجة فوق درجة الإيمان ، وتكون مع كمال الإيمان ، وهي درجة الإحسان التي يصير من يدركها يعبد الله تعالى كأنه يراه ، وهي حال فوق حال الإيمان يقينا واستقامة، قلما تدرك عند عموم المؤمنين، بله تدرك عند عموم المسلمين.
مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تنبيه الأمة إلى وقوع بعض الجهلة في زماننا هذا فيما وقع فيه أولئك الذين أنزل فيهم الله تعالى قرآنا يسفه عقولهم حين نسبوا الافتراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،الذي يعتبر كل ما أثر عنه وحي أوحاه له الله تعالى قرآنا وسنة ، ولا يمكن الفصل بينهما ، وهما اللذان لا تضل الأمة ما إن تمسكت بهما، كما أوصى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومعلوم أن الذين أثاروا عندنا زوبعة التشكيك في مصداقية ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال ، وأفعال ، وتقريرات ، وكلها على صلة بما جاء في كتاب الله عز وجل ، إنما أرادوا بذلك تضليل الناس من خلال تشكيكهم في الذي إن تمسكوا به لن يضلوا أبدا . ولقد اختاروا الظرف المناسبة لذلك ، وقد علت أصوات ناعقة بتغيير ما شرع الله تعالى ، ورسوله صلى الله عليه وسلم من قبيل تحريم فاحشة قوم لوط، وفاحشة الزنى ، والخدانة ، والإجهاض ، والعري والسفور ... وكل ذلك مما حرم بنصوص الكتاب، ونصوص السنة ، لهذا عمد المشككون في هذه الأخيرة إلى محاولة تعطيلها تمهيدا لمحاولة تعطيلهم نصوص القرآن الكريم تحت ذرائع واهية، كما هو الشأن في تجاسرهم على ما شرع الله تعالى في الميراث بنص قرآني محكم لا يقبل تأويلا، ولا تبريرا لتعطيله .
وحين يوصف بالجهل أولئك الذين يتعمدون التشكيك في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ،من خلال الطعن في أئمة الحديث ، وفي مصنفاتهم ، فإنهم يغضبون مع أن الله تعالى قد وصف أمثالهم ممن اتهموا رسوله صلى الله عليه وسلم بالافتراء بأنهم جهلة لا يعلمون . وإن جهلة هذا الزمان يتمادون في جهلهم ، وفي غرورهم ، ويتجاسرون على أهل العلم ، ويطالبون بالتناظر معهم ، وهم لا يميزون في العلم بدين الله عز وجل بين كوع وبوع كما يقال ، وليسوا من أهل العلم به ولا بأصحاب اختصاص فيه، بل هم مجرد أبواق للعلمانية الملحدة المتهلكة ، والمستهدفة علانية لهويتنا الإسلامية، طمعا في ابتلاع بلاد المسلمين التي استعصت عليها جغرافيتها الطبيعية ، فالتمست عوضا عن ذلك محاولة السيطرة عن جغرافيتها البشرية، وهي يروم تضليلها بمقولاتها الإلحادية المتهتكة والمستهترة .
وأخيرا نقول إن الله تعالى قد جعل فيما أوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو الحق من عنده كتابا وسنة زيادة إيمان بالنسبة للمؤمنين ، وهداية ، وبشارة للمسلمين ، أما الجهلة المشككون في وحيه ، فحسبهم قوله تعالى : (( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى )) ، وقوله أيضا : (( بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين )) صدق الله العظيم .
اللهم إنا نسالك زيادة في إيماننا بما أوحيت لنبيك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ونسألك هدايتك ، وبشارتك يا أرحم الراحمين ، ويا رب العالمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1041