( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون )
من المعلوم أنه يطّرد في كتاب الله عز وجل تشبيه هديه للبشرية بالنور، مقابل تشبيه ضلالهم بالظلمات . و هذا التشبيه عند البلاغيين هو تشبيه معقول بمحسوس .واللافت للنظر فيه، أن لفظة نور المفردة المنسوبة إلى الله تعالى ، والدالة على فعله، تقابل لفظة ظلمات، وهي جمع، وتدل على فعل البشر . وعند التأمل، نلاحظ تعدد أنواع الظلمات حسب أحوال الزمان والمكان ، ذلك أنه إلى جانب ظلمة الليل ، هناك ظلمات تكون في النهار في أماكن معلومة كالكهوف ، والسراديب ، والأماكن المغلقة ... وتكون في ظروف طبيعية أيضا مثل انتشار الضباب ، أوالغبار أوالدخان ... وما شابه ذلك، بينما يكون النور الذي يطردها واحدا في كل الأحوال .
ولقد جاء هذه التشبيه في آية مسبوقة بقوله تعالى : (( ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين ))، وسبب نزول هذه الآية الكريمة، هو ذكر ما كان عليه أهل الكتاب، ومعهم المشركون من رفض لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتكذيبه . وعملا بقاعدة العبرة بعموم لفظ كتاب الله عز وجل ، لا بخصوص سبب نزوله ، فإن كل مكذب بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل تحت صنف من أنزل فيهم الله عز وجل هذه الآية الكريمة إلى قيام الساعة ، علما بأن هذا الصنف لا زال موجودا إلى يومنا هذا .ومفاد هذه الآية الكريمة، أنه لا يبلغ ظلم ظالم مهما كان مبلغ ظلم من يُدعى إلى الإسلام ، ولكنه عوض الانصياع له، تماشيا مع الفطرة السوية التي فطر الله تعالى الناس عليها ،ينصرف إلى افتراء الكذب على الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا . والكذب على الله عز وجل،يكون بتكذيب من حمّله تبليغ رسالته عليه الصلاة والسلام ، فضلا عن المجادلة فيها بالباطل ، والخوض فيها بما ليس فيها من افتراءات . ولما كان افتراء الكذب على الله تعالى، إما بتحريف ما أنزل قبل الرسالة الخاتمة بالإخفاء أو بالحذف أو بالإنكار والتكذيب، ملازما لمن طبعوا على المكابرة والحجود ، فإن الله تعالى يتركهم على ظلمهم بحرمانهم من هدايته، وقد طبع على قلوبهم . ولقد ورد في كتب التفسير أن ظلمهم متعدد الوجوه ، فهم أولا ظالمون لله تعالى عن ذلك علوا كبير بتكذيب ما أنزل على رسوله ، وظالمون لرسوله صلى الله عليه وسلم بتكذيبه ، وظالمون لأنفسهم بحرمانها من الهداية ، وتوريطها في الضلال ، وظالمون لغيرهم ممن يقلدهم التقليد الأعمى ، ويُخدع بما يدعون إليه من ضلال. وبموجب هذه الآية الكريمة يكون كل معرض عن دعوة الإسلام في كل زمان أو مكان مطبوعا على قلبه، قد حرم هداية الله عز وجل ، وحال بينها وبينه مكابرته وجحوده .
ويسترسل قول الله تعالى في وصف هؤلاء المكابرين الجاحدين بقوله : (( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون )) ، وهذه الآية الكريمة، تؤكد أنهم عرفوا، واستيقنوا بصدق رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء من أهل الكتاب ، لكنهم يتعمدون صرف الناس عنها ، وقد شبه الله تعالى من يفعل ذلك بمن يريد إطفاء النور بالنفخ . وقد جاء في كتب التفسير أن ذكر الأفواه في هذه الاية الكريمة، هو إشارة إلى افتراء الكذب الذي يكون بالأفواه من أجل طمس الهداية ، تماما كما تستعمل الأفواه لإطفاء النور بالنفخ .
ومن سوء حظ هؤلاء المكذبين الضالين المفترين الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى تعهد بإتمام نوره على ما في نفوسهم من كراهة ذلك ، وأن ذلك حاصل على الدوام مهما تكررت منهم الرغبة في إطفاء نور هدايته سبحانه وتعالى، من خلال نشر ضلالهم ، لهذا كانت هداية الله عز وجل بمثابة النور الطارد للظلمات .
حديث هذه الجمعة اقتضاه الظرف الدقيق الذي نمر به ، حيث كثر استهداف الإسلام ، واجتمع على استهدافه أهل الكتاب كما كان سلفهم ، والمشككون فيه من الذين يدعون الانتماء إليه، لكن أقوالهم وأفعالهم تكذبهم ، وتفضح نفاقهم .
ومن افتراء الكذب على الله عز وجل عند هؤلاء وأولئك أن بعضهم ركب ما يسمى الاستشراق ، وهو ادعاء باطل مفاده دراسة أحوال الشرق والمقصود به المناطق التي يسودها الإسلام لأغراض علمية ، والحقيقة أن ذلك كان لأغراض التمهيد لاحتلال بلاد الإسلام ، واستغلال ثرواتها ،ومحاربته بالتشكيك فيه من أجل طمس معالم الهوية الإسلامية . وقد سار على نهج هؤلاء منافقون، رددوا مقولات لهم ، وروجوها بين المسلمين لتحقيق ما رسمه المستشرقون من أهداف، وعلى رأسها استهداف الهوية الإسلامية في بلاد الإسلام من أجل التمكين لتوجهات نظر أعدائه خصوصا العلمانية منها، التي ينوب عنهم في تسويقها مستلبون يزعمون أن نهضة المسلمين، لا يمكن أن تكون إلا بهذا التيار الدنيوي الكاسح ،الذي لا اعتبار عنده للآخرة التي جعلها دين الله عز وجل ،هي غاية الغايات ، التي إنما خلقت الدنيا من أجلها .
ومما ظهر مؤخرا عند من سلكوا مسلك الاستشراق في ترويج الأكاذيب عن الإسلام، الطعن في مصداقية أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتشكيك في طرق سندها ، وفي متونها ، وأسلوب أو منهج تشكيكهم ، يشوبه الاضطراب والتناقض الصارخ ،كما فضحهم أهل العلم حين سجلوا عليهم أنهم: أولا في انتقاد أسانيد الحديث عالة على من سبقهم ،الشيء الذي يدحض انتقادهم من أساسه ، وثانيا في انتقاد متونه ،لأن ما أنكروا منها له ما يشبهه في كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، وهم لا يستطيعون القول فيه بما تقولوه على أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم . ومن أمثلة ذلك، أنهم أنكروا اهتزاز جبل أحد وفوقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصديق والفاروق عليهما السلام ، لكنهم لا يستطيعون إنكار ما شابهه من انفجار الماء من الحجر بضرب نبي الله موسى عليه السلام بعصاه . وإذا كانت عقول المنكرين لم تستسغ حركة جبل أُحُد ، فيجب ألا تستسيغ أيضا انفجار الحجر بالماء بقرع العصا ، وما شابه ذلك مما جاء في كتاب الله عز وجل من قبيل سجود النجم والشجر ، وتسبيح كل المخلوقات والسماوات والأرض، وهو تسبيح لا يفقه البشر والذي استأثر الخالق سبحانه بعلمه.
ومعلوم أن لهؤلاء المشككين في الأحاديث النبوية الشريفة أتباعا هم ضحايا قد استخفوا بعقولهم بما ظنوه منطقا سليما ومقنعا ، وصار بعضهم يلهج بأباطيلهم عن جهل يكون عند البعض مركبا إن لم نقل مكعبا، كما يقال تعبيرا عن استحكام الجهل ببعض الناس . ومن أساليب التغرير بالمغرر بهم، والمستخف بعقولهم أنهم تعرض عليهم أمور وقضايا هي من تشريعات وضعية ، و مرجعياتها مخالفة لمرجعية الإسلام ، ثم تكون المطالبة بفرضها بديلا عن شرع الله تعالى من قبيل التطرف في المطالبة بما يسمى حقوقا وحريات والتي بلغت حد الإصرار على تعطيل ما شرع الله تعالى في الميراث على سبيل المثال لا الحصر، تجاسرا على إرادته جل في علاه ، وتغليبا لضلال الأهواء ، ويكون تبرير ذلك بمبررات واهية ، وكأن أصحابها أرأف بخلق الله منه، تعالى عما يصفون علوا كبيرا . ومن ذلك أيضا، أنهم ينادون بحلية ما حرم الله تعالى مع سبق الإصرار حتى جعلوا الفواحش أمورا مباحة من قبيل عمل قوم لوط، الذي يُموّه على فحشه وشناعته بكلمة العلاقة المثلية ، ومن قبيل الزنا واتخاذ الأخدان، الذي يموه على فحشه وفظاعته بكلمة العلاقة الرضائية ، كما أنهم أحلوا المحرمات من مسكرات ، ومخدرات ، ومهلوسات ، ومفترات ،وأباحوا العري والسفور والتهتك ، ودعوا إلى الاستهتار بكل القيم الإسلامية واقترحوا البديل العلماني . وكل ذلك من افتراء الكذب على الله عز وجل ، ومن اتباع الأهواء ، وكل ذلك إنما هو محاولة فاضحة لإطفاء نور الله بأفواههم .ولما كان وعد الله عز وجل ناجز لا محالة ، فإن تمام نور هديه يظل ثابتا لا يتغير، مهما ازدادت ظلمات أهل الضلال حلكة.
اللهم نوّر قلوبنا بنور هديك ، واعصمنا من ظلمات الضلال ، واعل اللهم راية دينك ، ونكّس أعلام أعدائه جليهم وخفيهم ، وأرنا فيهم يوما مشهودا تشفي فيه صدورعبادك المؤمنين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1047