( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا )
من عناية الله عز وجل ببني آدم أنه لم يتركهم هملا بعدما أن أسكنهم الأرض ، وهيأ لهم فيها سبل العيش الكريم الذي يصون كرامتهم، لأنهم خلقوا أصلا للتكريم والتفضيل على كثير ممن خلق . ومن كمال عنايته جل في علاه أنه ظل على تواصل معهم عبر التاريخ بواسطة رسل كرام اصطفاهم منهم ، وصنعوا على عينيه ، وجعلهم ذرية بعضها من بعض كما أخبر بذلك في محكم تنزيله حيث قال : (( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض )) . وهذا النص القرآني ،ومثله يؤكد أن رسل وأنبياء الله صلواته وسلامه عليهم أجمعين، قد اختارهم سبحانه وتعالى ليكونوا وسطاء بينه وبين خلقه عناية بهم، حيث يبلغون عنه رسالاته إليهم، لتكون نبراسا لهم يهديهم إلى ما يحقق سعادتهم الدنيوية والأخروية .
ومعلوم أن اصطفاء الله عز وجل للرسل والأنبياء كان قبل أن يوجدوا ، وقبل أن يولدوا ، وهذا يعني أن صفة الرسالة والنبوة ملازمة لهم وهم أجنة في بطون أمهاتهم ، ويولدون وهم على ذلك ، إلى أن تحين بعثتهم ، ويؤكد ذلك ما خاطب به الله عز وجل نبيه الكريم موسى عليه السلام في محكم التنزيل بقوله : (( وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني )). إنها صناعة إلهية شملت كل المرسلين من لدن آدم عليه السلام إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
وبالرغم من أن المرسلين كانت لهم أحوال مما هو من صميم الطبيعة البشرية قبل تكليفهم بالتبليغ عن رب العزة جل جلاله ، فإن ذلك لا يتعارض مع اصطفاء الله عز وجل لهم ، صناعتهم على عينيه .
ولما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كغيره من المرسلين، كما أخبر بذلك رب العزة جل جلاله في قوله : (( قل ما كنت بدعا من الرسل )) ، فإنه آخر من اصطفاه ربه ، وقد خضع لما خضعوا له قبل تكليفهم بتبليغ الرسالات من عناية الله تعالى . ولمّا كان الأمر كذلك ، فإن مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم كمولد كل المرسلين حدث في غاية العظمة والأهمية بالنسبة للبشرية جمعاء . وأول ما يعنيه مولد المرسلين أن الله تعالى قد تفضل على من ولدوا فيهم برعايته وعنايته ، وأكرمهم بالتواصل معهم بواسطتهم .
ولما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم آخر الانبياء والمرسلين، وقد بعث بين يدي الساعة ، فإن مولده أعظم حدث على الإطلاق بالنسبة للبشرية جمعاء ، وهو ما يلزمها أن تحتفل به ، وتتأمل في دلالته، لأنه عناية ربانية بالناس أجمعين إلى يوم الدين ، ولأنه آخر تواصل معهم قبل أن ينتهي مشوار الحياة الدنيا ليبدأ مشوار الآخرة . ولقد تكرر في الذكر الحكيم المنزل على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ذكرعالمية دعوته حيث قال الله تعالى : (( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون )) ، فهذا النص القرآني الموجه إلى الناس أجمعين إلى يوم الدين ، فيه إخبار بعالمية رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وبوحدانية الله تعالى ، وبقدرته ، وفيه أمر بالإيمان به وبرسوله ، وأمر باتباعه لأن الهداية لا تتأتى إلا بهذا الاتباع .
ولقد جعل الله تعالى دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهي دعوة كل المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين دعوة شاملة تهم العالمين ، وهي ظاهرة على غيرها باعتبار عالميتها ، و باعتبار محدودية زمان ومكان ما سبقها من دعوات مصداقا لقوله عز من قائل : (( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا )) . وقبل الوقوف عند هذه الآية من سورة الفتح ، نذكر بسبب نزولها كما جاء ذلك في كتب التفسير، حيث أخبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه في الحديبية وقبل عقد الصلح مع كفار قريش برؤيا رآها، مفادها أنه سيدخل البيت الحرام معهم وهم محلقين رؤوسهم ومقصرين كناية عن اعتمارهم، وهم يومئذ آمنين من غدر الكفار. ولما انصرف بعد الصلح ، ولمّا يدخل البيت الحرام ، وكان بعض المنافقين قد علموا بخبر تلك الرؤيا ، أخذوا يشككون فيها من أجل التأثير على المؤمنين، فأنزل الله قرآنا يشهد فيه بصدق رؤيا نبيه صلى الله عليه وسلم التي تحققت في العام التالي للصلح ،مع بشارة بفتح مكة ، علما بأن سنة الله عز وجل في المرسلين أن رؤاهم هي وحي من عنده ، وقد ذكر الله تعالى رؤيا خليله عليه السلام ، ورؤيا يوسف عليه السلام ، فضلا عن رؤيا سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم .
والذي يعنينا من هذه الآية الكريمة، هو ذكر الغاية التي من أجلها ولد ، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي هداية البشرية جمعاء إلى دين الحق الذي هو الإسلام ، وقد أراد له الله تعالى أن يكون ظاهرا على الدين كله بما أودع فيه من كمال. وبمقتضى هذه الآية الكريم، لا يحق لأحد بعد بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يجعل غير الإسلام ظاهرا عليه ، لأن في ذلك تجاسرا على إرادة الله عز وجل ، ومخالفة لها ، وابتغا غير ما ابتغاه سبحانه وتعالى لخلقه من هدى ضمنه دينه الحق . وقد جاء في بعض كتب التفسير أن المراد بالهدى هوة أصول الدين من اعتقاد وأخلاق ، وأن المراد بدين الحق هو شرائع الإسلام . وواضح أن بين الهدى، ودين الحق تناغم وانسجام ،لأن الاعتقاد يوجه التشريع .
مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تذكير المؤمنين بما لحلول مناسبة المولد النبوي الشريف من دلالة على عظمته، والتي تعد عناية إلهية خص بها الله عز وجل البشرية جمعاء، والحياة الدنيا ماضية إلى نهاية قريبة ليبدأ مشوارالآخرة.ومما يجب أن يستأثر باهتمام الأمة المؤمنة في كل المعمور أن البشرية جمعاء مع ميلاد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يلزمها بعد بعثته أن تهتدي بهديه ، وتدين بدين الحق الذي أظهره الله تعالى على الدين كله .
ويجدر بالأمة المؤمنة اليوم ، والدين الذي أظهره الله تعالى على الدين كله يتعرض لأخبث المؤمرات من التيار العلماني الإلحادي، أن تعي جيدا ذلك التآمر ، وأن تتصدى له بالثبات على دينها قولا وفعلا ، وألا يكون انتماؤها له مجرد ادعاء باللسان دون يقين يستقر في الجنان ، بينما أفعالها اقتباسات من العلمانية الملحدة ، وهي بذلك منكرة لما أظهر الله تعالى على الدين كله .
ويتعين على الأمة المؤمنة أيضا ألا يكون احتفالها بالمولد النبوي الشريف مجرد مظاهر تعكس الفرح به ،مع أنه أمر محمود، بل هو أكثر من ذلك واجب، خصوصا في زماننا هذا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مستهدف في شخصه الكريم من جهات عدة، تجتمع كلها عند إضمار وإظهار العداء له ،وللهدى الذي جاء به ، ولكتاب الله عز وجل المصرح بظهور الإسلام على الدين كله يمتهن في البلاد العلمانية تدنيسا وحرقا . وزيادة عن إظهار الفرح بالمولد النبوي الشريف لأن ذلك لا محالة يغيض الكفار والمنافقين ، يجب الاحتراز من البدع والضلالات التي من شأنها أن تنقض الهدى الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربه ، وتسيء إلى دين الله تعالى الحق ، الذي أظهره على الدين كله . ويجب أن نحترز من أن يقيم علينا أعداء هذا الدين حجة بمخالفتنا لتعاليمه من خلال مظاهر احتفال ضالة ومضلة تنقضها ، ونكون بذلك موضوع تندر وسخرية عندهم .
اللهم اجعل لنا مناسبة حلول المولد النبوي الشريف فرصة للصلح معك ، والصلح مع الهدى الذي أرسلت به رسولك صلى الله عليه وسلم ، والصلح مع دينك الحق الذي أظهرت على الدين كله ، والصلح مع سنة رسولك عليه الصلاة والسلام ، فنقتدي بها في كل أحوالنا ، ونغيض بذلك من يستهدفونها من سفهاء المنافقين ، ومن أعداء دينك العلمانيين الكافرين الحاقدين . اللهم نبه الغافلين من عبادك المؤمنين إلى كيد من يكيدون لهم ولدينهم ليل نهار من أجل صرفهم عنه ، وعن هداك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1048