حديث الجمعة : (( والذين آمنوا أشد حبا لله ))
من المعلوم أن عاطفة الحب لدى بني آدم هي مما جبلوا عليه ، أو هي من طبيعتهم البشرية المتأصلة فيهم . والحب عبارة عن تعلق المحب بالمحبوب ، وهو إما تعلق بذات المحبوب ، أوهومجرد رغبة فيما يرجى عنده من نفع مادي أو معنوي ، وقد يكون الجمع بين هذا وذاك .
ولا يخلو الحب عند الإنسان ـ بغض النظر عن من يحب ـ من أن يكون صادقا فيه أو يكون مجرد وهم أو محض ادعاء من ورائه نشدان حاجة لدى المحبوب إذا تم الظفر بها، انتهى بذلك الحب الموهوم .
ومعلوم أيضا أن الحب نوعان باعتبار المحبوب ، ذلك أن حب الناس بعضهم البعض أو حبهم لما يحيط بهم من أشياء ليس كحبهم لخالقهم جل في علاه ، وبهذا كان الناس في حبهم باعتبار المحبوب منذ خلقوا فئتين : فئة محبوباتها المخلوقات سواء كانت حقيقة أو كانت متوهمة ، وأخرى محبوبها الخالق سبحانه وتعالى ، ويلحق بمحبته من المخلوقات ما أمر سبحانه بحبها.
ولقد تناول كتاب الله عز وجل موضوع الحب في أكثر من موضع ، نذكر من ذلك قوله تعالى : (( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله )) ، ففي هذه الآية الكريمة حديث عن نوعين من الحب ، ونوعين المحبين ، ونوعين من المحبوبين . أما النوع الأول، فهو حب بعض الناس أندادا يتخذونهم آلهة من دون الله ـ تعالى الله عما يصفون ـ ويحبونهم حبا يسوونهم فيه بحبه جل في علاه، ، وأما النوع الثاني، فهو حب غيرهم لله عز وجل دون سواه ، ويكون حبهم له هو الأشد. وقد جاء في بعض كتب التفسير أنه توجد مفاضلة بين درجة الحب أو المحبة حيث يقال : هذا أحب ، وأعلى منها قولهم أشد حبا.
وما يعنينا من موضوع الحب ههنا ، هو حب المؤمنين لله تعالى مصداقا لقوله :عز وجل (( والذين آمنوا أشد حبا لله )) . ولما كان كل حب مشروطا بدليل شاهد عليه، فإن الله تعالى اشترط في حب الخلق له شرطا لا مندوحة لهم عنه مصداقا لقوله تعالى : (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم )) ، والخطاب في هذه الآية الكريمة، موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كي يوجهه بدوره إلى الناس كافة، خصوصا منهم الذين يدعون محبته سبحانه وتعالى . و الدليل الشاهد على صدق محبته جل في علاه، هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو اتباع إنما يحصل بالاقتداء والتأسي به في كل أحواله، وأقواله، وأفعاله ، وقد وصفه الله تعالى بقوله : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) ، وذلك لبيان طبيعة الاقتداء المطلوب ممن يقتدون به . وهذا الخلق إنما يُنشد في كتاب الله تعالى الذي أوحاه إليه ، وقد أمر به مصداقا لقوله تعالى : (( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير )) ، ويفهم من هذه الآية الكريمة أن الاستقامة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن خلاله أمر بها المؤمنون، هي استقامة على الخلق العظيم المنصوص عليه في كتاب الله عز وجل ، وأن الانحراف عن هذا الخلق هو طغيان أو خروج عن نهج الاستقامة .
ونعود إلى قضية الدليل الشاهد على صدق محبة المؤمنين لله تعالى، وهي أشد المحبة على الإطلاق إذا قيست أو قورنت بكل أنواع المحبة المتعلقة بغير الخالق من المخلوقات، لنقول إن لهذه المحبة الأشد قد جعل لها الله تعالى محبة مقابلة من لدنه ، يتبادلها مع من يحبونه ممن يتبعون رسوله صلى الله عليه وسلم الذي كان حبه لله تعالى هو الأعلى والأسمى ، والذي بسبب أثنى عليه سبحانه وتعالى، ووصفه بالخلق العظيم . ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجاريه لأحد في درجة محبته لله تعالى ، ولا يجاريه أحد في استقامته كما أمره ربه جل في علاه ، والناس إنما هم مقتدون به دون أن يبلغوا درجة محبته لربه سبحانه وتعالى أو درجة استقامته له ، وهو نموذجهم في ذلك ، ودليلهم .
ولما كانت غاية الغايات عند المؤمنين هي تصحيح حبهم لله تعالى بالصدق فيه ، فإنه لا مندوحة لهم عن قبول الدليل الشاهد عليها الذي اشترطه الله تعالى شرطا ضروريا لمن يدعي حبه، وهو شرط لا يوفق إلى تحقيقه على الوجه الأكمل إلا من وفقه الله تعالى ، والمؤمنون متفاوتون في تحقيقه ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل الهظيم .
ولما كان هذا هو الدليل الشاهد على صدق حب المؤمنين لله تعالى، وجب على من ينشده أن يلتمس الوسيلة المناسبة إليه ، وهي اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو اتباع لا يحصل إلا بالاقتداء والتأسي ، ويجب أن يكون فيه المقتدى به معروفا عند المقتدين . ومن جهل المقتدى به، صعب عليه الاقتداء ، لهذا لا مندوحة للمقتدين عن المعرفة الجيدة بالمقتدى به من خلال الرجوع إلى شاهدين عدلين على هذه المعرفة، وهما كتاب الله عز وجل ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا تتأتى الاستفادة من شهادتهما إلا بمداومة معاشرتهما ، وبذلك أمر الله تعالى بقوله : (( فاقرءوا ما تيسر من القرآن )) ، وهذه القراءة التي يشترط فيها حسن التدبر ، إنما هي رجوع دائم ومستمر إلى شهادة القرآن الكريم في كل الظروف والأحوال ، وهي شهادة يؤكدها الرجوع إلى شهادة السنة المشرفة .
موضوع حديث هذه الجمعة، فرضته المناسبة التي يقال عنها أنها شرط ، وهي مناسبة مولد سيد الخلق، وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم . وهذه المناسبة لا يكون الاحتفال بها موفقا إلا إذا اجتهد المحتفلون بها في نشدان المعرفة الصحيحة بالرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام الذي أمروا أن يقتدوا به من أجل السير على نهجه رغبة في غاية الغايات ،وهي الصدق في محبة الله تعالى المشروطة ضرورة وحتما باتباعه اقتداءا وتأسيا ، وهو في ذلك دليلهم عليه الصلاة والسلام إلى سبيل الاستقامة والهداية، لأنه قد خبر تلك السبيل كما يخبر الأدلاء السبل التي يرومها من ينشدون الوصول الموفق إلى غاياتهم . ويتعين على كل مؤمن ومؤمنة ألا تغيب عنه غاية الغايات التي هي الصدق في محبة الله تعالى طرفة عين ، ولا أقل من ذلك ، وهو في كل أحواله. ومن شغلته غايات أخر مهما كانت عن غاية الغاية ، فإنه لا يأمن على نفسه من طغيانها عن سبيل الاستقامة . ولا بد من التذكير أن الصدق في حب الله تعالى ، يكون بالصدق في حب ما أمر سبحانه وتعالى بحبه ، وهو حب المصطفى عليه أفضل الصلوات وأزكى السلام ، ثم حب آل بيته الطاهرين ، وحب صحابته الغر الميامين ، وحب عموم المؤمنين . إن هذه الأنواع من الحب، إنما هي من إشعاع حب الله تعالى، ومن تجليات ، ولا يصدق حب الله تعالى في قلب مؤمن أو مؤمنة إلا بصدق حبهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصدق من حبهم يكون بحب الله تعالى، وبحب رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا يتحقق هذا الحب إلا بالدليل الشاهد وبالبينة الجلية ، ولهذا قال الشاعر :
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
اللهم إنا نسألك التوفيق في صدق محبتك ، و في صدق محبة من تحب ، واجعلنا نحب بحبك من يحبك ، ونعادي بعداوتك من يعاديك . اللهم وفقنا لمعرفة رسولك صلى الله عليه وسلم حق المعرفة ، ووفقنا لحسن اتباعه ، وحسن الاقتداء به في كل أحوالنا ، ولا تخالف بنا عن نهج استقامته ، واجعله لنا شفيعا يوم الفزع الأكبر.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1052