( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين )
من رحمة الله عز وجل بخلقه ترغيبهم في الاستقامة على صراطه المستقيم ، وترهيبهم من الزيغ عنه . والقرآن الكريم يزواج في العديد من آياته بين أسلوبي الترغيب والترهيب . والناس من حيث التأثر بهذين الأسلوبين أربع فئات : فئة لها استعاد للاستقامة على صراط الله المستقيم عن طريق أسلوب الترغيب ، وهي الأكثر رجاء وطمعا في جزاء الآخرة ، وأخرى لا تستقيم عليه إلا بأسلوب الترهيب ، وهي الأخوف من عقاب الآخرة ، وثالثة تتأثر بهما ، وهي الأعقل والأفضل إذ تجمع بين الخوف والرجاء رغبا ورهبا ، ورابعة لا تتأثر بهما معا ، وهي الأخسر .
ويتعلق ذكر الترغيب والترهيب في كتاب الله عز وجل ضرورة بذكر طاعته ،وذكر معصيته حيث يتمحض الترغيب للطاعة ، بينما يتمحض الترهيب للمعصية.
ومن الآيات التي جمع فيها الله عز وجل بين الأسلوبين ترغيبا وترهيبا، قوله عز من قائل : (( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين )) ، ففي هذين الآيتين الكريمتين جملتان شرطيتان بفعلي شرط وفعلي جواب ، وسياقهما حديث سابق متعلق بقسمة الميراث ، وقد سمى الله تعالى تلك القسمة حدوده ، و من معاني الحد في اللسان العربي ما يميز مكانا عن آخر بحيث يمنع تخطيه أو تجاوزه ، والحدود في قوله تعالى هنا استعملت مجازا للتعبير عن منع إحداث تغيير في القسمة التي قسم بها الله تعالى الميراث بين ذوي الحقوق .
وترغيبا في التزام المؤمنين بتلك القسمة ، جعل الله تعالى جزاء من يلتزم حدوده بطاعته فيها خُلدا في جنات تجري من تحتها أنهار. وترهيبا من تجاوز حدوده بمعصيته في ذلك ، جعل عقابه خُلدا في نار جهنم مع الهوان.
وإذا ما كان سبب نزول هاتين الآيتين هو قسمة الميراث ، وكانت العبرة بعموم لفظ القرآن الكريم ، وليس بخصوص سببه ، فإن كل طاعة لله تعالى بالتزام حدوده التي حدها لها، تفضي إلى الخلد في الجنة ، بينما كل معصية له بتعدي حدوده تفضي إلى الخلد في النار، ويتوب الله عز وجل على من تاب غير مصر على تعدي حدوده ما لم يغرر .
وعند التأمل في هاتين الآيتين ، تستوقفنا عبارة : " حدود الله " ، وهي توحي بمنع تجاوزها أو تحديها تماما كما تجعل البلدان حدودا لها ، وتمنع تجاوزها دون إذن منها . وتجاوز الحدود لا يكون عن جهل ، بل يكون عن عمد وسبق إصرار. وكما أن من يتعدى حدود بلد غير بلده، يعرض نفسه لعقابه وفق قوانينه المعمول بها ، فإن من يتعدى حدود الله تعالى فيما شرع أمرا أو نهيا، يعرض نفسه لغضبه ، ويكون مصيره عذاب الخلد في النار مقترنا بالإهانة ، علما بأن أنفة وشموخ الإنسان يأبيان عليه تعريض نفسه للهوان ، وهذا الأخير مصحوبا بالعذاب يزيد من شدة معاناة من يسلطان عليه .
وليس من قبيل الصدفة أن يذكر الله تعالى تعدي حدوده في معرض أو سياق ذكره لأنصبة الميراث، لأنه لا يسمح بأن يحدث فيها تغيير إلى قيام الساعة ، وقد جعلها أنصبة بأقدار معلومة رياضيا ، ولم يتركها دون تعيين وتدقيق . وكل مساس بتغييرها يعتبر عنده تعد لحدوده ، وحدوده سبحانه وتعالى هي حماه الذي يأبى أن يستباح كما جاء في حديث رسوله صلى الله عليه وسلم الذي جاء فيه : " ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه " .
مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تحذير المؤمنين من الانسياق مع دعوات شاذة ترفع اليوم إعلاميا بمناسبة القرار الملكي بمراجعة بعض مضامين مدونة الأحوال الشخصية عندنا ، حيث يصرح البعض بالمطالبة بإحداث تغيير في أنصبة الميراث التي فرضها الله تعالى تحت ذريعة المساواة بين بعض الورثة ، علما بأن الخالق سبحانه وتعالى لم يكن خافيا عليه ما ستكون عليه أحوال خلقه إلى قيام الساعة ، وقد فرض ما فرض في الميراث ، وقضى ما قضى عدلا منه جل في علاه ، وما الله بظلاّم للعبيد . ولقد حذر الله تعالى من تعدي حدوده تخصيصا في أمر أنصبة الميراث ، وتعميما في غيرها مما شرع وقضى . ولقد جاء التحذير أو الترهيب من تعدي أو تخطي حدود الله عز وجل في صيغة وعيد شديد بعذاب الخلد في النار مصحوبا بالهوان ، وهو عذاب يمس من يدعو إلى تعدي حدود الله عز وجل ، كما يمس من يجاريه في ذلك ، وهو على علم ووعي بإصراره على ذلك.
ومعلوم أن من يزينون اليوم للناس تعدي حدود الله تعالى في قسمة الميراث ، إنما يخادعونهم بالعزف على أوتار عواطفهم المندفعة ويغررون بهم حملهعم على اقتحام حمى الله عز وجل بإتيانهم ما حرمه تحريما صريحا ، و ما جرم فاعليه ، وتوعدهم بالخلد في شديد العذاب المهين .
ويتعين على المؤمنين ألا تغريهم مقولات من يتجاسرون على كتاب الله تعالى من العلمانيين ، ومن يسايرونهم في تجاسرهم ، وألا يستهينوا بحمى الخالق سبحانه وتعالى كما حدّه وحدده في كتابه الكريم ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم . وعلى المؤمنين أن يلتزموا حدود الله ، وينصتوا إلى الناصحين من أهل العلم والصلاح عوض الميل مع أهل الأهواء من المستلبين الذي يحذون حذو أعداء ديننا من العلمانيين الذين يستهدفون ديننا، وهويتنا الإسلامية , وهم بلك يستهدفون سلمنا وأمننا واستقرارنا في وطننا الآمن ، وقد رضي له الله تعالى دينه ،وارتضاه لنا، كما ارتضاه من قبل لأسلافنا ، وقيض لنا إمارة المؤمنين ، وجعلها حامية لحمى الملة والدين ، وقد صرح من قلد مسؤوليتها معلنا ذلك أمام كل رعاياه، بأنه لا يحل ما حرم الله تعالى ، ولا يحرم ما أحل، جريا على سنة أسلافه الصالحين .
اللهم إنا نعوذ بك من أن نقرب حدودك بما لا يرضيك ، أو نتعدها ، ونعوذ بك من سخطك والنار ، ونسألك أن تعيننا على إرضائك كي ننال رضاك والجنة . اللهم رد ردا جميلا إلى صراطك المستقيم كل من حاد عنه جهلا غير عامد ، وتولّ بما شئت من يتعمدون ذلك ، ويشيعونه في عبادك المؤمنين ، وقد زين لهم الشيطان الرجيم أعمالهم فضلوا عن صراطك المستقيم .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1053