( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما )
سجلت الرسالة الخاتمة للموجهة إلى العالمين إلى يوم الدين مشاهد من حروب أومن أيام المؤمنين مع أعداء دينهم زمن نزولها، ليكون ذلك تشريعا لكل الحروب القادمة بين المؤمنين والكافرين ، بعد زمن النبوة إلى يوم القيامة . ومن ذلك تشريع تحفيز المسلمين على مبادرة ومبادأة الأعداء المتربصين بهم بالغزو قبل أن يصدرعنهم الغزو، لأن مبادرتهم بالغزو من شأنها أن ترعبهم، وتفل من عزمهم ، وتزيد من إقدام وشجاعة المؤمنين، ومن قوتهم وصلابتهم، ومن صبرهم، وثباتهم مصداقا لقوله تعالى : (( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما )) ، ففي هذه الآية الكريمة، أمر من الله عز وجل للمؤمنين بالإقدام في طلب أعدائهم ، ويكون ذلك بمبادرتهم ومباغتتهم بالغزو، إظهارا منهم للقوة التي ترعبهم ، علما بأن الله عز وجل قد جعل الغاية من إعداد العدة حين مواجهة المؤمنين أعدادهم الكافرين هي إرهابهم بذلك مصداقا لقوله عز من قائل : (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون )) ، ففي هذه الآية الكريمة جعل الله تعالى في بذل الوسع والطاقة من أجل قوة قوامها كل ما يوفرها من مختلف الأسلحة ،ومن خيول تركب ، وغير ذلك من الوسائل إرهابا لعدوه وعدو عباده المؤمنين المجاهدين، وإرهابا أيضا لكل من يوالونهم ، وقد كان هؤلاء زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود ومنافقين، يوالون المشركين والكفارمن قرش وغيرهم.
وإذا ما جمعنا بين الآيتين السابقة والتالية ، نجدهما تجتمعان عند غاية إرهاب الأعداء ، ذلك أن إعداد العدة ، و كذا المبادأة بالغزو، يحققان معا هذه الغاية . ومعلوم أن الحروب تتطلب معنويات قوية لدى المتحاربين ، و لهذا فأمر الله المؤمنين بمبادأة أعدائهم بالغزو، يدخل في إطار رفع معنوياتهم التي تدعم صبرهم، وثباتهم، وصلابتهم في اللقاء . وغالبا ما تترتب الهزائم في الحروب عن ضعف معنويات المتحاربين ،وانحدارها ، لهذا حفز الله تعالى المؤمنين بقوله : (( إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون )) ، وفي هذا بيان لما يصيب المتحاربين من ألم يكون مشتركا بينهم على حد سواء، إلا أن الفرق بين المؤمنين والكافرين وإن تساوى الألم عندهم ، هو رجاء المؤمنين من ربهم إحدى الحسنيين: انتصار أو شهادة ، بينما لا رجاء مثله لدى أعدائهم، لأن قتلاهم في النار ، وقتلى المؤمنين في الجنة ، مهما كانت نتيجة الحرب بينهم . ولقد ذيل الله تعالى هذا التحفيز بالتنبيه إلى علمه وحكمته من ورائه (( وكان الله عليما حكيما )) ، وهذا يعني أن رفع معنويات المؤمنين في مواجهة أعدائهم من علم الله تعالى، ومن حكمته التي قد تخفى على كثير من الناس خصوصا الذين يقللون من شأنها ، أومن دورها في تحديد نتائج النزال ، أو يحاولون تثبيط عزائم المؤمنين خصوصا إذا كان أعداؤهم يفوقونهم عددا وعدة ، وهؤلاء إنما هم المنافقون المتقاعسون عن نصرتهم ، وهم بذلك يقفون إلى جانب أعدائهم ، ويديرون إلى جانبهم حرب المعنويات لفائدتهم . ولا شك أن الذين يضعون نصب أعينهم الجنة من المجاهدين المؤمنين ، لا يفل من عزائمهم مثل ذلك التثبيط ، ولا ينال من معنوياتهم المرتفعة ، لأنهم يسعون نحو ما هو أفضل من الانتصار وهو الشهادة في سبيل الله عز وجل ، جنة الخلد ، وهذا ما يدفع في اتجاه انتصارهم على أعدائهم ، لأن الأعداء يعلمون أن وراء هلاكهم مصير أبدي مشئوم في نار جهنم . ومما جاء في الآية الثانية أن الله تعالى قد زاد من تقوية عزائم عباده المؤمنين المجاهدين بالاصطفاف معهم ، وذلك بوصف أعدائهم بأنهم أعداء له أيضا ، وهو ما يجعلهم يشعرون بمعيته في منازلتهم ، وهم يعلمون علم اليقين ألا غالب إلا هو سبحانه وتعالى . ومما جاء في تفسير قوله تعالى : (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ... )) ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيانه لهذه القوة المطلوبة من المؤمنين قوله وهو يتلو هذه الآية ثلاث مرات : " ألا إن القوة الرمي " ، ولقد تحققت نبوته ، ولا زالت ، وستبقى كذلك إلى نهاية العالم إذ الرمي قوة لا تضاهيها قوة أخرى .
مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تثبيت المؤمنين في أرض الإسراء والمعراج الذين يواجهون أعداءهم الصهاينة وحلفائهم الصليبيين ممن يعلمونهم ، وممن لا يعلمونهم من المتخاذلين هذا أولا ، وثانيا هو تثبيت من يناصرونهم ، ويجدون في أنفسهم ألما ،وهم يشاهدون ضحاياهم من الأبرياء العزل صبية، ونساء ،وعجزة ، ومرضى ممن يستهدفهم العدو حين يتلقى ضربات الرمي الموجع من أبطال صامدين رغم قلة عددهم وعتادهم . ولقد بارك الله تعالى في ما عندهم عتاد ، وثبتهم ما أوصى به رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله : " ألا إن القوة الرمي " . ولئن كان العدو يرميهم أيضا ، فرميه من السماء عبر الطائرات والمسيرات رمي الجبناء العاجزين والفاشلين في ساحات النزال ، وذلك بسبب ثبات ثبّت به الله عز وجل عباده المؤمنين المجاهدين في سبيله ومن أجل مقدساته ، وبسبب ما يرجونه منه سبحانه وتعالى من ثواب على ذلك ، وهو ما لا يرجوه أعداؤهم، وكل من يوالونهم ، و يحاربون إلى جانبه.
وأخيرا نقول لكل من يألمون صدقا بسبب ما يؤلم المرابطين بأرض الإسراء والمعراج، وقد حيل بينهم وبين نصرتهم ،وانقطعت بهم سبل تلك النصرة : إنكم ستؤجرون إن شاء الله تعالى عما يؤلمكم ، فاحتسبوا أجر ذلك عند ربكم ، ولا تكونوا من القانطين ، ولا يجب أن تنال من عزائمكم أقوال المثبطين الذين يصطفون مع الصهاينة في خندقهم ، ويستعجلون انتصارهم على المجاهدين الذين وعدهم الله تعالى بنصر قريب ، وهم يرجون ما لا يرجوه أعداؤهم، وكل من يوالونهم ظاهرين أو متخفين . ولا يجب أن يقعد الألم بالمتألمين دون بذل الوسع في إيجاد سبل لنصرة إخوانهم بكل ما يستطيعون كي يحسب ذلك لهم لا عليهم .
اللهم إنه لا غالب إلا أنت سبحانك ، وإن أعداء عبادك المؤمنين هم أعداؤك كما جاء في قولك الكريم ، فانتصر يا قوي يا عزيز ، ولا تجعل سبيلا لأعدائك على عبادك المؤمنين ، واحفظهم اللهم يا مولانا من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحتهم ، وامددهم بمددك القوي الظاهر والخفي ، وأر اللهم أعداءهم منهم ما يكرهون ، وما يرهبهم ، وسلط عليهم الفتن ما ظهر منها وما بطن ، واشغلهم اللهم بها عن عبادك المؤمنين ، وعجل اللهم بإطفاء نار حرب أوقدها وهم يريدون استمرارها وتمديدها ليهلكوا عبادك المؤمنين ، واجعل ختامها نصرا مبينا لعبادك المؤمنين المجاهدين ، وحسرة على أعدائك أعداء دينك ، وحسرة على كل من يواولنهم، إنك سميع مجيب ، وإنك نعم المولى ونعم النصير .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1062