لا يؤسف الشجرة الفأس التي تقطعها إنما يؤسفها العود الذي يحملها وهو مقطوع منها
من نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادقة إخبار أمته المسلمة بزمن يأتي عليها ، وهي في أقصى درجة الذل والهوان بين الأمم ، وذلك في حديثه المشهور : " يوشك الأمم أن تداعى عليكم ، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ، فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن ؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت " .
والغريب في هذا الحديث النبوي الشريف ـ حتى لا نقول المفارقة تنزيها له ـ أن تذل وتهون أمة الإسلام، وهي كثرة كاثرة ، علما بأنها عزّت وهي قلة قليلة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومما يذل هذه الأمة على كثرتها كما جاء في هذا الحديث، حبها و تعلقها الكبير بالدنيا، والإقبال عليها بنهم وشره ، وكراهية الموت ،وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الإقبال وهنا أي ضعفا .ولا يستقيم منطقا أن يكون الضعف مع كثرة الأصل فيها القوة ، ومن أجل إقناع رسول الله صلى الله عليه بإمكان حصول هذا الذي لا يستقيم منطقا في الظاهر، جاء بتشبيه يرفع الغرابة عن الأذهان حيث شبه الكثرة التي يلابسها الضعف بالغثاء ، وهو ما يعلو السيول من رغوة ، ومن كل ما خف من خشاش الأرض وغيره . ومعلوم أن الغثاء يكون حسب حجم السيول التي تكون زاخرة ، ومع ذلك يكون غثاؤها أهون ما فيها على كثرته . ولا يستطيع أحد بعد هذا التشبيه وهو غاية في التصوير أن يستغرب وجود ضعف في كثرة إلا أن يكون مكابرا .
ومما يثير الانتباه في هذا الحديث الشريف أيضا سؤال السائل : " ومن قلة نحن يومئذ ؟ " ، ولا شك أن الذي جعله يسأل هذا السؤال هو التشبيه الأول في الحديث الشريف الذي شبه الأمة بقصعة طعام يجتمع حولها الأكلة ، وهذا ما جعل السائل يخطر بباله أو يستحضر قلة الأمة ، لأن قصعة الطعام مهما امتلأت فإن تداعي الأكلة عليها يأتي عليها ويفرغها . ولا شك أن السائل ذهل لما أخبره رسول الله صلى الله عليه بكثرة الأمة يومئذ ، لكن غرابته سرعان ما زالت عندما شبه عليه الصلاة والسلام الأمة يومئذ بغثاء السيل الذي لا نفع يرجى منه كما جاء في قول الله تعالى : ((فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )) .
ومع تحول الأمة إلى غثاء بسبب ما يصيبها من وهن ، تنزع مهابتها من قلوب أعدائها ، فيستخفون بها ، ويمعنون في إهانتها ، وإذلالها تماما كما يستخف بالغثاء الذي تتقاذفه السيول . وأما قلوب الأمة، فيستقر فيها حب الدنيا والتعلق بها وكراهية الموت، وقد جاء التعبير عن هذا الحب بالوهن بليغا بل غاية في البلاغة ، ذلك أن الحب مهما كانت طبيعته يرافقه بالضرورة وهن المحب وضعفه واستكانته للمحبوب ، وصدق من قال :
أهنت نفسي للحب بعد عزتها وأي ذي عزة للحب لا يهن
ومعلوم أن المهابة لا تنزع من قلوب أعداء الأمة إلا بعد تأكدهم من حلول الوهن بقلوب أهلها ، لهذا يزينون لها الدنيا لتزداد تعلقا وشغفا بها ، وعلى قدر هذا التعلق والشغف، يكون حجم الوهن ، وتكون الغثائية .
ومعلوم أيضا أن الذي يفسد حب الدنيا هو الموت والزوال ، لهذا يصير مكروها في القلوب ، وعلى قدر حجم هذا الحب تزداد كراهية الموت ، وبزيادتها يزداد حجم الذل والهوان ، ذلك أن الوجل من الموت يجعل الواجل منه متشبثا بالحياة أيما تشبث ،على ما يكون فيها من خسة وذل وهوان ، ويصير همه هو التعلق بها ، وعليه يصدق قول الشاعر الحكيم :
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميّت إيلام
فكما ينعدم إحساس الميّت بألم الجرح ، ينعدم إحساس من يهون بألم الهوان.
وإذا ما عرضنا حال أمتنا المسلمة عربها وعجمها اليوم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يسعنا إلا الجزم بأننا نحن من عناهم وقصدهم ، ذلك أننا اليوم كثرة كاثرة قد تجاوزنا المليار والنصف عددا ، وعلمت الأمم العدوة ما سكن قلوبنا من وهن ، فنزعت من قلوبها المهابة منا، وأمعنت في إذلالنا ذلا ليس بعده ذل ، وصرنا مسخرة عندهم ، يتندرون بنا في أحاديثهم ، ونحن متشبثون بالحياة، ومقبلون عليها بشره ونهم ، لا نبالي بإذلال يلحقنا منها .
ولعل ما صدمنا ونحن غارقون في الوهن، وما هو إلا أوحال الذل والهوان ، وما كشف النقاب عن غثائيتنا ، هو ما حدث بعد السابع من أكتوبر، لما هبت قلة من أبناء أرض الإسراء والمعراج لتدفع عنا هواننا ، وقد قلبت معادلتنا الخاسرة المراهنة على حب الدنيا وكراهية الموت ، فأقبلت على الموت كإقبالنا على الحياة لعلها تحررنا من وهننا الذي ران علينا، لكننا مع الأسف لم نفق من سكرة حب الدنيا بل ازداد تعلقنا بها ، وازداد وجلنا من الموت الذي يستطيبه إخواننا في غزة بأرض فلسطين . ومن فرط غثائيتنا صرنا نعجب منهم كيف يودعون شهداءهم بالمئات يوميا ، وهم يسألون الله عز وجل أن يتقبلهم ويرضاهم منهم ، وذلك بصبر وجلد كبيرين، وقد أذهلوا بذلك حتى أعداءنا الذين ألفوا منا التعلق بالوهن والرضا به ، ولكنهم فاجأهم أنه بقيت فينا قلة تركب الموت ببسالة منقطعة النظير ، ومذكرة بسلف صالح منه تعلمت البسالة .
ولقد صرنا نفكر في جيوشنا ، ونتساءل باستغراب ما الذي أقعدها في
ثكناتها عن الحذو حذو إخواننا الذين أحبوا الموت ، وكرهوا حياة المهانة في غزة العز ، وما أقعدها إلا الذي أقعدنا كشعوب ، علما بأن من طبيعة جيوشنا أن تكون محبة للموت كارهة للحياة ،إلا أنها مع شديد الأسف صارت أشد تعلقا بالحياة منا ، وعزّ فيها من يقف في وجوه ساستنا الذين استخفوا بنا أيما استخفاف ، والذين بدورهم استخف بهم أعداؤنا تماما كما استخفوا بنا ، وصاروا خدما عندهم يأتمرون بأوامرهم ، ويصدرونها إلى جيوشهم القابعة في ثكناتها المنشغلة بلذة الوهن على ما فيها من ذل وهوان .
ولقد ضرب طلاب الموت الأبطال في غزة أمثالا رائعة في البسالة والصمود أمام أعدائنا الذين يرعبون جيوشنا الواهنة بأسلحة دمارهم التي قيدتهم بقيود المهانة والذلة . ولولا غثائيتنا ، واستكانة جيوشنا ، وخيانة ساستنا الفاضحة لما تجاسر علينا أعداؤنا .
ولقد أصاب الحقيقة المنطبقة علينا من قال : " لا يؤسف الشجرة الفأس التي تقطعها إنما يؤسفها العود الذي يحملها وهومقطوع منها " .
وسوم: العدد 1073