( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها )
حديث الجمعة :
من المعلوم أن الله عز وجل قد تعبد الخلق بعبادات منها عبادة الصلاة التي تعتبر صلة يومية بينه وبينهم ، وحدد الكيفية التي تؤدى بها من قيام، وركوع ،وسجود ، وما يتلى فيها من كلامه المنزل على رسله الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين. ولقد ثبت في القرآن الكريم ، وهو آخر ما أنزل الله تعالى إلى البشرية حتى قيام الساعة أن جميع المرسلين كانوا يؤدون الصلاة ، ويأمرون أقوامهم بأدائها .
ولقد خص الله تعالى هذه العبادة بأماكن معلومة ، فوصفها ببيوت نسبها إلى ذاته المقدسة ، وسماها مساجد ،لأن من أحوال الصلاة السجود ، وهذا الأخير هو أكثر أحوال هذه العبادة خضوعا لله تعالى ،كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أقرب ما يكون العبد من ربه ، وهو ساجد ،لهذا تسمت الأماكن المخصصة للسجود مساجد ،وكُنّي به عن مجموع أحوال الصلاة .
ولقد خص أيضا الله تعالى مساجده بالتعظيم من بين كل الأماكن التي يسجد له فيها، وعلى رأس من عظم منها المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ثم مسجد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة ، ومن تعظيهما أن الصلوات يضاعف الأجر فيها أضعافا كثيرة عن الأجر في غيرها من مساجد المعمور .
ولما خصت هذه المساجد بهذا التعظيم ، وخص به غيرها أيضا حيثما وجد، فإن الله تعالى فرض ألا يمنع ذكره فيها ، وألا يُسعى في خرابها واعتبر ذلك أشد الظلم ، وخصه بأشد العذاب في الدنيا والآخرة مصداقا لقوله تعالى : (( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم )) ، ولقد ورد في كتب التفسير أن المسجد المقصود في هذه الآية الكريمة، هو المسجد الأقصى الذي خربه الطاغية ملك آشور بختنصر ثلاث مرات ، وقيل أيضا أنه الأقصى الذي خربه الطاغية ملك الرومان طيطوس ، وقيل هو المسجد الحرام الذي منع مشركو مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه من دخوله. والجامع بين طاغية آشور ، وطاغية الرومان ، وطغاة مشركي قريش أنهم جميعا منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، فكان منع الطاغيتين الآشوري والروماني عن طريق تخريب المسجد الأقصى ، وكان منع طغاة المشركين الحيلولة دون دخول الرسول والمؤمنين إلى المسجد الحرام . وكل هؤلاء شملهم عذاب الله في الدنيا وهو الخزي ، وسيلقون أعظم و أشد العذاب في الآخرة .
ولما كان القرآن الكريم رسالة الله الخاتمة إلى العالمين في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة ، فإن العبرة فيه بعموم لفظه ، لا بخصوص أسباب نزوله فقط ، لهذا فمتى وحيثما وقع منع ذكر الله عز وجل في مساجده مهما كان أسلوب أو شكل المنع أو نوع السعي في خرابها مهما كانت طبيعة التخريب ، فإن العقوبة هي الخزي في الدنيا ، وأشد العذاب في الآخرة تكون من نصيب من يمنعون الذكر فيها ، ومن يسعون في خرابها إلى يوم القيامة . وقوله تعالى (( ومن أظلم )) يعني أنه لا يوجد من هو أظلم ممن يقوم بهذه الأفعال ، علما بأن الظلم يكون بشكلين، إما اعتداء على حق الغير بالتصرف فيه أو وضع الشيء في غير ما وضع له ، وهذان الشكلان ورادان معا في قوله تعالى حيث اعتدى المعتدون على حق من كانوا يؤدون صلاتهم في المسجد الأقصى ، كما أنهم بتخريبه غيروا من وضعه ، ومن هذا التغيير أنهم حولوه من مسجد إلى مكان للزبالة .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين إلى ما يحدث في زماننا هذا من منع مساجد الله أن يذكر فيه اسمه ، ومن سعي في خرابها . وأول مسجد يمنع فيه ذكر الله تعالى في هذا الزمان هو المسجد الأقصى المبارك حيث يمنع المحتل الصهيوني المسلمين من الصلاة فيه في أغلب الأوقات ، ويضعون كل العراقيل لمنع شرائح الشباب المسلم من الوصول إليه ، ويضيقون عليهم بتحديد أعمار من يرتادونه ، ويقتحمونه عليهم ، ويدنسونه ، ويعتدون على عمّاره بالضرب والتنكيل، والإهانة ،والأسر بمن فيهم المرابطين فيه ممن يحمونه ... ويغلقونه من أجل أن يفسحوا لمستوطنيهم المتطرفين بإقامة طقوسهم فيما يسمونه أعيادهم كهذه التي يحتفلون بها في هذه الأيام والتي يسمونه عيد الفصح... إلى غير ذلك من أساليب المنع بكل أشكال العسف والظلم الصارخ على مرأى ومسمع العالم الذي لا يحرك ساكنا . ولا يقتصر ظلم الصهاينة على منع دخول المسلمين المسجد الأقصى ،بل يهددون بخرابه من أجل إقامة ما يسمونه هيكل سليمان ، وهم ماضون في ذلك ، وبهذا يجمعون بين منع المسلمين من الصلاة فيه ، وبين التهديد بخرابه .
ومعلوم أن طوفان الأقصى إنما وقع كرد فعل على ما يقوم به الصهاينة من تدنيس لأولى القبلتين ، وثالث الحرمين الشريفين باستمرار ، ومنع للمسلمين من إقامة الصلاة فيه . ولهذا لا يمكن أن يُغض الطرف في تفسير قول الله تعالى بخصوص المسجد الأقصى على أن المقصود هو المنع والخراب السابقين تاريخيا فقط في زمن الأشوريين والرومان ، بل المقصود أيضا ما يقع فيه اليوم في زماننا هذا على يد الصهاينة المجرمين .
وقد يشمل أيضا منع ذكر الله في مساجده ، والسعي في خرابها غير ما يقع في المسجد الأقصى في شتى الأقطار التي توجد فيها أقليات مسلمة مضطهدة كما هو الحال في بلاد الصين والهند ومينمار... وغيرهما ، كما يشمل أيضا أقطارا علمانية غربية تمنع الجاليات المسلمة من إقامة المساجد وتضيق عليها بكل أشكال التضييق أو تمنعها من ذلك منعا تحت ذرائع واهية تموه على عدائها الصارخ للإسلام .
ومن المؤسف شديد الأسف أن تحذو بعض الأنظمة في بلاد الإسلام ـ يا حسرتاه ـ حذو أنظمة البلاد العلمانية ، فتمنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه أو تسعى في خرابها بأشكال خفية ملتوية تحت ذرائع واهية أيضا . ومن أشكال هذا المنع والتخريب الخفي أن يضيق فيها على من يدعون إلى الله ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر، ويقصون من ارتياد منابرها لأداء واجبهم الشرعي حيث تلفق لهم تهم زعم ملفقوها أنهم يخالفون ضوابط الخطابة أو الدعوة ، وهي تهم باطلة لتبرير إقصائهم ، وإعطاء انطباع للرأي العام بأنهم دعاة فتنة ، وعند تقصي الحقائق يكون الأمر متعلق بإنكارهم منكرات صارخة لا غبار عليها . ومن الإساءة إلى مساجد الله أيضا أن توكل منابرها إلى غير المؤهلين للخطابة والدعوة لضعف تكوينهم ، فيكون ذلك سببا في نفور الناس من حضور خطبهم ومواعظهم التي لا يفيدون منها شيئا ، ولا يعودون منها بطائل خصوصا حين يُضرب صفحا عما يحدث في بلاد الإسلام من أحداث جسام كالتهديد بخراب المسجد الأقصى ، وإبادة المسلمين في أكنافه إبادة جماعية على يد الصهاينة ، فتنصرف بذلك الخطب إلى مواضيع بعيدة عما يحدث من مثل هذه الأحداث جسام ، وتكون ذلك عبارة عن صرف للمسلمين عنها إلى غيرها مما لا جدوى منه أو يكون في آخر سلم أولويات الأمة الإسلامية في زمن أشد الكيد للإسلام والمسلمين . ولقد طلع علينا في وسائل التواصل بعض الخطباء هنا وهناك في بلاد الإسلام يدينون الجهاد من أجل حماية المسجد الأقصى عوض إدانة تهديد الصهاينة له ، ومنهم من رأى أن الجهاد إنما يكون بالسنن ، وليس بمواجهة العدو الصهيوني ، ومنهم من سمى طوفان الأقصى طوفان خراب... إلى غير ذلك من أنواع الإدنات ، وقد نالوا بذلك من الخزي ما وعد به الله تعالى في الدنيا حيث أنكر عليهم المسلمون ذلك أشد الإنكار،ولعذاب الآخرة أشد . إن هذا الذي يقال من طرف بعض من يعتلون المنابر هو سعي ماكر وخبيث في خراب بيوت الله عز وجل . وأما الساكتون عن إنكار المنكرات، فحدث ولا حرج ، وقد جعلوا خشية الخلق أكبر من خشية الخالق ، وهم يهلكون أنفسهم ولكن لا يشعرون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
اللهم إنا نعوذ بك أن يُمنع ذكرك في بيوتك حيثما وجدت أو يُسعى فيها بالخراب مهما كان نوعه ، ونعوذ بك من قلوب لا تنكر ذلك ، ومن ألسنة تخرس عن إنكاره خشية من لا يملكون موتا، ولا حياة، ولا نشور ، واجعلنا اللهم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه . وحرر اللهم مسجدك الأقصى من دنس الصهاينة ، وجنب بيوتك حيثما وجدت من كيد الكائدين الذين يريدون بها سوء ، واجعل كيدهم في نحورهم .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1079