( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)
( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)
حديث الجمعة :
من المعلوم أن دين الإسلام ، وهو وحده الدين عند الله عز وجل ، ومن يبتغ غيره لن يقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين ، هو أكبر نعمه سبحانه وتعالى على الخلق . ومن اعتنقه أسبغ عليه جل وعلا من فيض نعمه التي لا تعد ولا تحصى ، ومصدرها جميعا نعمة الإسلام .
ولقد اقتضت إرادة الله عز وجل أن يُمكّن لهذا الدين من لدن بعثة آدم عليه السلام إلى بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وجعل لهذا التمكين أسلوب الدعوة إليه، وتبليغه للناس كافة حيثما بلغ مداهما حسب الظروف التي تمر بها البشرية ، كما أنه وفر الظروف المواتية للدعوة إليه وتبليغه ، ومنها التصدي لكل العراقيل التي تقف في وجههما ،بما في ذلك الدفع بالقوة التي جعلها فريضة مكتوبة ،وسماها الجهاد. وإذا كان السلم من نعم الله تعالى، وهو الأصل في استقرار الحياة ، فإن من نعمه أيضا التمكين للسلم بالدفع والجهاد .
وكما أمر الله تعالى خاتم المرسلين والمبعوث للعالمين بالجهاد والدفع من أجل إيصال رسالته الخاتمة الموجهة إلى العالمين حتى تقوم الساعة ، فإنه أمره بالجنوح إلى السلم إذا ما جنح له من يحاربون دينه ، ويضيقون عليه أو يمنعون إيصاله إلى الناس كافة .
ومن أمره تعالى بالجنوح إلى السلم قوله عز من قائل مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم : (( وإن جنحوا إلى السلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين )) ، ففي هاتين الآيتين أمر الله تعالى رسوله الكريم بالجنوح إلى السلم متى ما أنس ممن يحاربونه جنوحا إليه بدورهم . والجنوح عبارة عن ميل ،وهو كما قال المفسرون مقتبس من جنوح الطير إذا أراد الاستقرار على الأرض أو غيرها حيث يميل بأحد جناحين . وجنوح أعداء الإسلام إلى السلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بد له من مؤشرات دالة عليه من خلال أقوالهم أو أفعالهم أو مواقف بعينها ، أو كل ما من شأنه أن يجعل الرأي يميل إلى إرادتهم السلم حقيقة لا ادعاء فقط . ولقد أمر الله تعالى رسوله بألا يرتاب في ميلهم إلى السلم، لأنه عليه الصلاة والسلام منزه عن الارتياب، وعن سوء الظن الذي أمره به الله تعالى ،وكلفه أن ينهى عنه أتباعه المؤمنين . ولقد أعطى الله تعالى ضمانه لرسوله في حال جنوحه للسلم استجابة لجنوح أعدائه إليه ، ويتمثل هذا الضمان أولا في كونه سبحانه وتعالى سميعا ، يسمع من أعداء رسوله عليه السلام ، ما لا يستطيع هذا الأخير سماعه ، وكونه عليما ، يعلم منهم ما لا يعلمه رسوله عليه السلام ، وكفى بهذا ضمانا من ذي العزة والجلال ، وهو ما يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يطمئن إلى قرار جنوحه للسلم مع أعدائه إذا ما جنحوا له ، ولكن الله تعالى زاد على هذا الضمان الأكيد بأن طمأن رسوله في حال كون جنوح الكافرين للسلم مجرد خديعة يريدون خداعه بها ، فأخبره بأنه سبحانه هو حسبه أو كافيه إذا ما كان في الأمر خداع ، وذكره بمثل هذا الضمان السابق الذي كان من قبل ، وهو تأييده له بنصر من عنده سبحانه وتعالى ، وبالمؤمنين الذين هيأهم لنصرته . وبهذا يكون ضمان الله تعالى مؤكدا ومتينا وقويا حين يجنح رسوله صلى الله عليه وسلم إلى السلم مقابل جنوح أعدائه إليه ، وهو ما يطمئن به قلبه عليه الصلاة والسلام .
ولقد وقف المفسرون عند ضمير الجمع في قوله تعالى : (( وإن جنحوا للسلم ))، فقال بعضهم هم المشركون ، وقال غيرهم هم اليهود من بني قريظة ، وبني النضير ، وبني قَينُقاع ، وقال آخرون هم أولئك وهؤلاء ، و قد رجحوا هذا الرأي الأخير، لأن المشركين كانوا على صلة دائمة باليهود ، وكان هؤلاء يكيدون للرسول صلى الله عليه وسلم كل كيد ، وكان لا يأمن جانبهم لغدر متأصل في طبعهم .
وإذا كان لهاتين الآيتين سبب نزول ،يتعلق بما حدث نزول زمن الوحي ، فإن العبرة بعموم لفظهما لا بخصوص سببهما إذ قد تنشب الحروب بين المسلمين وأعداء دينهم في كل عصر ومصر ، وقد يحصل الهدنة بين الطرفين بجنوح هؤلاء الأعداء إلى السلم ، فيتعين حينئذ على المسلمين أن يجنحوا إليه بدورهم استجابة لأمر الله تعالى الذي أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن خلاله أمر كل المؤمنين إلى قيام الساعة ، شريطة أن يكون الجنوح إلى السلم لصالح دعوة الإسلام وصالح المسلمين . ولهذا يتعين على المسلمين في كل زمان ومكان أن يلتزموا بأمر الله تعالى سلما وحربا .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو الظرف الذي يعيشه إخواننا في أرض فلسطين حيث تدور حرب إبادة جماعية انتقاما من المدنيين العزل بعدما ظهرعجز الصهاينة المعتدين أمام المقاومة الفلسطينية الباسلة التي استعصت عليهم، مع ما لديهم من قوة ، وما يحظون به من دعم كبير من طرف قوى عالمية تمدهم بكل أنواع الأسلحة ، وبمختلف المعونات والمساعدات ، فضلا عن تأييدهم اللامحدود ، واللامشروط ، مقابل حصار المقاومة، والضغط عليها بقتل أبناء شعبها العزل انتقاما منهم بأبشع وأفظع الطرق والأساليب . وأمام استعصاء المقاومة المظفرة ، والمنصورة بالله تعالى ، أبدى العدو الصهيوني وحلفاؤه جنوحا للسلم مع المقاومة ، وردت هذا الأخيرة على جنوح مقابل له ، وإن كان الجنوح من طرف الصهاينة مثار شكوك لما يصرح به بعض قادتهم الدمويين من الإصرار على مواصلة الحرب ، وهو خلاف ما تتحدث عنه الدول الغربية الداعمة لهم من جنوح للسلم ، وهذا ما يدعو المقاومة إلى الارتياب في حقيقة جنوحهم للسلم ، وقد طالب قادتها بضمانات حقيقية من الوسطاء بمن فيهم من يدعمون العدو الصهيوني .
ومعلوم أن ضمان الله عز وجل لعباده المؤمنين كائن ودائم إلى قيام الساعة متى ما استقاموا لربهم استقامة رسوله صلى الله عليه وسلم، واستقامة من كانوا معه من المؤمنين ، ووعد الله تعالى لا خلف فيه ، لهذا فالله تعالى حسب المجاهدين في فلسطين وفي كل مكان ، وهو السميع لكل ما يدور في معسكر الصهاينة، ومن يؤيدونهم مما لا يسمعه المجاهدون ، وهو أعلم بأمر الصهاينة وأعوانهم مما لا يعلمه المجاهدون ، فإذا ما كان وراء تظاهرهم بالجنوح للسلم كيد ،ومكر، وخداع ، فالله تعالى يرد كيدهم في نحورهم ، وهو ولي المجاهدين ، وهو حسبهم ونعم الوكيل ، وهو ناصرهم ، كما نصر رسوله صلى الله عليه وسلم ، هو ومن كانوا معه من المجاهدين ، وهو مؤيدهم بالمؤمنين في هذا الزمان أيضا، كما أيد رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كانوا معه من المؤمنين من قبل .
ولهذا يجب على المجاهدين في أرض الإسراء والمعراج أن يسيروا على خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى خطى سلفهم الصالح في التعامل مع جنوح أعدائهم للسلم ، وأن يستيقنوا بمعية الله تعالى ، وبنصره لهم وبالمؤمنين في كل مكان من المعمور .
ويجب على عموم المؤمنين في كل زمان ومكان بموجب إيمانهم بالوحي، وقد وصفهم الله تعالى بذلك في كتابه الكريم ألا يغفلوا عن هاتين الآيتين ، وأهم ما فيهما الضمان الإلهي الباعث على طمأنينة القلوب ، وعلى اليقين بنصر الله تعالى وتمكينه للمجاهدين في سبيله .
اللهم إنا نسألك نصر المجاهدين في سبيلك بأرض الإسراء والمعراج ، وكن اللهم وليهم ونصيرهم إذا ما أراد أعداؤهم خياتهم فيما يبدون لهم من جنوح للسلم ، وأيدهم بنصرك ، وبالمؤمنين كما وعدت بذلك رسولك عليه الصلاة والسلام ، وعبادك المؤمنين إلى أن تقوم الساعة . اللهم أيقظ ضمائر المؤمنين كي يهبوا لنصرة إخوانهم في غزة ، وفي عموم فلسطين ، وقد استحر القتل فيهم ، ولا ناصر لهم إلا أنت، وكفى بك خير الناصرين ، وقد أظهرت لهم من نصرك ما اطمأنت به قلوبهم ، وتثبت به أقدامهم. اللهم إنا نعوذ بك من أن يغدر بهم الغادرون ، وأنت أعلم بهم، وأنت أقدر على من يريدهم بسوء ، ولا غالب سواك سبحانك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم ، وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1083