( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير )

حديث الجمعة :

من تكريم الله تعالى لبني آدم، وتفضيلهم على كثير ممن خلق تفضيلا أن أنعم عليهم بنعمة إقرار الأولوهية والربيوية له ، و بنعمة توحيده دون أنداد أو شركاء معه من خلقه. وبهذه النعمة الكبرى، تتوالى نعمه التي لا إحصاء ولا عد لها . ومما يحصل عن هذه النعمة الكبرى ،نعمة التوحيد نعمة الجامعة الإسلامية ، وهي وحدة صف الأمة الإسلامية ، وقوامها الولاء بين أفرادها مهما بعدت المسافات بينهم ، ومهما اختلفت ألسنتهم وألوانهم ، وهي اختلافات تزول بذلك الولاء .

 وعلى قدر الولاء بين المسلمين و قدر الصدق فيه كما أمر بذلك الله تعالى، تستقر أحوالهم ، وتطيب حياتهم ، وتقوى شوكتهم  بين أمم المعمور ، وتصان بيضتهم ، ويهاب جانبهم . وفي المقابل إذا ما ضعف الولاء بينهم، نزعت المهابة من قلوب من يعادونهم سواء أضمروا لهم العداء أم أظهروه ، وحلت بهم الفتن ، وعمهم الفساد ، وساءت أحوالهم ، وتهددتهم الأخطار من كل جانب ، وبالتعبير القرآني ذهبت ريحهم كناية عن ضعفهم، وذلتهم بين الأمم.وقد لا يقدّر كثير من المسلمين نعمة الولاء بينهم ، وهي نعمة مترتبة عن نعمة التوحيد الكبرى إذ اجتماعهم على التوحيد ينسج بينهم  تلك العلاقة القوية المتينة التي لا تنفصم عروتها .

 ولقد حث الله تعالى المؤمنين على صيانة نعمة الولاء بينهم في أكثر من موضع في كتابه الكريم ، وتكفي الإشارة إلى قوله عز من قائل في الآية الثالثة والسبعين من سورة الأنفال : (( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير )) ، ففي هذه الآية الكريمة، ذكر الله تعالى الولاء الذي يجمع بين الكافرين بحيث يعاضد  بعضهم بعضا في كل الأمور والأحوال ، وغالبا ما يكون ولاؤهم هذا على حساب المؤمنين،  بل لا يتأتى ولاء بعضهم بعضا إلا بإضمار وإظهار العداء والكيد لهم . وبهذا نبه الله تعالى المؤمنين إلى ما قد يفوتهم من شكر  نعمة الولاء بينهم  والتي لا يتأتى شكرها إلا بالتزام  ذلك الولاء على الوجه الذي ارتضاه الله تعالى لهم، إذ شكر نعم الله عز وجل لا يقتصر على شكر اللسان أو القول، بل لا بد من شكر الفعل ، وهو التصرف الإجرائي والعملي في تلك النعم وفق ما أمر به الخالق سبحانه وتعالى، وما رضيه وارتضاه لعباده المؤمنين .

فإذا كان الولاء قائما بين الأمم الكافرة على ما هي عليه من كفر و ضلال ، فكيف يغيب الولاء بين الأمة المؤمنة ، والتوحيد شعارها ،وهو الرابطة المتينة التي تربط بين أفرادها ؟ ولهذا أمر الله تعالى عباده المؤمنين بأن يكون الولاء بين بعضهم البعض ، وأن يكونوا أولى به من الكافرين فقال جل شأنه : (( إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير )) ، ولقد اقترنت صيغة الأمر في قوله تعالى هنا بالتحذير من الفتنة ومن الفساد الكبير . ومعلوم أن الأمر يكون أشد وقعا في النفوس عندما يكشف النقاب  عن الفائدة من القيام به أو يحذر من عاقبة  تركه . والفتنة التي حذر منها الله تعالى، تأتي من مخالطة المؤمنين للكافرين ، وهي فتنة تصيبهم في دينهم، حيث يركن إليهم من في تدينهم رقة وضعف  فتنتج عن مخالطتهم علاقات وأواصر لا ينبغي أن تكون  ، وبسبب ذلك يحصل انجذابهم نحو ملة الكفر، إن لم يكن ذلك كفرا ، وحصل لهم ارتياح إلى ما في ملتهم من أحوال ،علما بأن حال الراعي الذي يرعى حول الحمى ،هو الوقوع  لا محالة فيه، كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 وعن الفتنة تترتب كل أنواع الفساد ، وقد وصفه الله تعالى بالكبير تعبيرا عن شدته واتساع نطاقه، بحيث يشمل كل مجالات الحياة . ومن أشد الفساد على المؤمنين تفرقهم ، وتشتت كلمتهم ، وقد يصل الأمر بهم إلى حد الاقتتال فيما بينهم ، وهو ما ينزع عنهم صفة الإيمان كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " كما روى عنه ذلك جرير بن عبد الله رضي الله عنه . وأشد من ذلك أن يعين المؤمنون على بعضهم البعض أعداءهم ، فيقعون فيما نهى الله عنه ، وتحل بهم الفتن والفساد الكبير . ولقد تبث تاريخيا أن تعطيل المسلمين الولاء بينهم ، وموالاتهم للكافرين كان دائما سبب حلول نقم الفتن والفساد بهم ، ولا  يتسع المقام هنا  لسرد تلك الأحوال المؤسفة  .

مناسبة حديث هذه الجمعة، هي تنبيه المؤمنين خصوصا في هذا الظرف بالذات إلى غفلتهم عما أمرهم به الله تعالى من موالاة بعضهم البعض حذر الفتنة والفساد الكبير . وقد يمر المؤمنون بهذا التحذير الإلهي دون أن يقفوا وقفة تدبرعنده ، ودون استشعار خطورة ما حذرهم منه  من فتن وفساد كبير.

فها هم إخواننا في أرض الإسراء والمعراج يخوضون حربا  ضروسا، وقد اجتمع عليهم النصارى من كل أقطار الدنيا مع اليهود يقاتلونهم لإخراجهم من أرضهم ، وقد حوصروا حصارا شديدا ، وجوّعوا ، وقتّلوا تقتيلا ، بل أبيدوا إبادة جماعية، لأنهم انتفضوا من أجل تحرير المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين الذي صار يدنس كل يوم باقتحام  جيف اليهود له، وهم يلوحون جهارا نهارا، ويهددون بهدمه من أجل إقامة هيكلهم المزعوم  لهم مكانه.  ومقابل موالاة النصارى لليهود ، وملة الكفر واحدة ، انتفت الموالاة بين المؤمنين أو لنقل بعبارة أدق ومع شديد الأسى والأسف بين المحسوبين على الإيمان والإسلام  إذ الانتماء إليهما  مشروط بتصديق العمل للقول . وآية انتفاء موالاتهم أن بلاد الإسلام المجاورة لأرض الإسراء والمعراج قد أغلق ولاة أمورها الذي يتظاهرون بالحسرة على ما يتعرض له المؤمنون خلف حدودهم مباشرة ، و قد منعوا الطعام والشراب والدواء على أهلها ، مع أن واجبهم المفروض عليهم شرعا هو الدفاع عنهم إلا أنهم تقاعسوا عما هو دون ذلك من توفير الطعام والشراب والدواء  لهم . وما قيل عن ولاة أمور دول جوار فلسطين، ينطبق على عموم ولاة المسلمين في كل شبر من المعمور ، إنهم جميعا يتفرجون على المذابح الرهيبة التي يتعرض لها أطفال ونساء وعجزة المؤمنين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، ولا ناصر لهم إلا الله تعالى .

ومما يدمي القلوب حسرة وألما أن كثيرا من ولاة أمور المسلمين يرتبطون بمعاهدات مع الصهاينة القتلة المجرمين ومع من يناصرونهم من الصليبيين ، ويتشبثون بها أيما تشبث، بل فيهم من يشمت بالمحاصرين  المستضعفين ، ويدين المجاهدين المدافعين عنهم ، وفيهم من لا يلقي بالا لمأساتهم ، وهم في شغل عنهم فاكهين ، يقيمون المهرجانات ، ويهتمون بالدورات الرياضية، ويجعلونها فوق تلك المأساة أهمية ، وقد استخفوا بشعوبهم ، وجعلوهم قطعانا يسوقونهم ويوجهونهم حيث شاءوا، وهم  في غفلة لا يشعرون ولا ينتبهون إلى ما حذر منه الله تعالى من فتن مشتعلة في بلدانهم وهم عنها غافلون ، ومن فساد كبير شائع فيها لا يلقون إليه بالا ، وهو في امتداد واتساع متواصلين بوتيرة غير مسبوقة ، وقد عم كل مجالات الحياة ، واستفحل أمره ، واتسع فتقه على الرتق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

اللهم إنا نبرأ إليك من كل قول أو فعل فيه موالاة لأعدائك ،وأعداء دينك، وأعداء عبادك المؤمنين ، اللهم رُدَّ بأمة الإسلام إلى صراطك المستقيم ، وبصّرها بانحرافها عن هديك القويم  . اللهم قيّض لها خيارا من عبادك يسوسونها  ويقودونها بكتابك، وبسنة نبيك صلى الله عليه وسلم .

اللهم إنا لا نملك سبيلا لنصرة إخواننا  في أرض الإسراء والمعراج  وقد استضعفنا كاستضعافهم ، ولم يبق لنا من وسيلة لنصرتهم سواء اللجوء إليك بالدعاء الصادق لهم ، ونعوذ بك من أن يشملنا غضبك  لسوء أعمالنا  ولكثرة معاصينا وذنوبنا ، فَنُحرم من الاستجابة ، يا خيبتنا إن حرمناها.

اللهم اربط على قلوب المجاهدين في سبيل إعلاء كلمتك، وثبت أقدامهم ، وسدد رميهم ، وامددهم بعونك ومددك ، فقد رأينا منه الكثير ، فزدهم منه  يا رب العالمين ، واحفظهم اللهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ولا تجعل للكافرين عليهم سبيلا . اللهم اطفء نار الحرب التي تبيد المستضعفين من عبادك المؤمنين، فإنك قد وعدت بإطفاء كل نار يوقدها اليهود أعداء دينك. اللهم عجل بفرج لهؤلاء المستضعفين من عبادك المؤمنين وقد قتّلوا وجوّعوا ، وهجّروا وقولهم يا رب ليس لنا سواك ، وقد خذلنا الخاذلون ، وأسلمنا الغادرون، ولا حول لنا ولا قوة إلا بك ، فلا تردهم يا ربنا خائبين ، واستجب دعاءهم إن حرمتنا استجابة دعائنا لهم لتقصيرنا ولسوء أعمالنا ، وفساد أحوالنا . اللهم لطفك بهم وبنا يا لطيف .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .  

وسوم: العدد 1091