( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا )
حديث الجمعة :
من المعلوم أن الله عز وجل بعدما وقعت الخطيئة من آدم وحواء عليهما السلام بسبب إغواء إبليس اللعين لهما عن طريق وعود كاذبة ، تاب عليهما رحمة منه جل وعلا ، وأسكنهم الأرض بعدما أخرجوا من الجنة كي يخضعوا لدورة ابتلاء آخرى يصحبهم فيها إبليس اللعين الذي أقسم بعزة الله تعالى أن يتسلط على ذريتهما كما تسلط عليهما ، ويحرمها من دخول الجنة .
ومن رحمة الله تعالى بذرية آدم وحواء، أنه تعهدهم برسالاته المتضمنة لتوجيهاته التي تهديهم إلى صراطه المستقيم ، وتحيد بهم عن سبل إبليس اللعين . وكان أول ابتلاء لهذه الذرية هو أول جريمة في تاريخ البشرية، وهي سفك دم ابن آدم هابيل الذي امتدت إليه يد أخيه قابيل بالقتل ، وذلك بوسوسة من إبليس اللعين جعلت نفسه تطوع له ارتكاب هذه الجريمة التي حكى قصتها الله عز وجل في سورة المائدة فقال : (( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتُقُبِّل من أحدهما ولم يُتَقبَّل من الآخر قال لأقتلنَّك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين )).
وتوالت جرائم القتل بين البشر بعد هذه الجريمة الأولى ، ولا زال القتل مستحرا في الناس إلى يومهم هذا ، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، والسبب في ذلك هو غياب وازع التقوى الذي جعله الله تعالى شرطا يحوز به البشر التكريم عنده مصدقا لقوله تعالى : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير )) ، ففي هذه الآية من سورة الحجرات ، بين الله تعالى الشرط الذي بَفضُل به الناس عنده ، وهو تقواه التي لا يعلمها سرها وباطنها إلا العليم الخبير سبحانه وتعالى ، وتكون لها في الظاهر أدلة عليها تتجلى في السلوكات والمعاملات كما جاء على لسان ابن آدم هابيل إذ قال لأخيه : (( إنما يتقبل الله من المتقين )) ، كما قال له أيضا : (( ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين )) ، والخوف من الله تعالى إنما يكون بوازع التقوى ، ولهذا، فإن وازع التقوى عند بني آدم إلى قيام الساعة هو المانع من وقوعهم في الخطيئة مهما كانت ، خصوصا خطيئة سفك دمائهم ، وإزهاق أرواحهم ، وقد جعلهم الله تعالى شعوبا وقبائل كي يتعارفوا بما للتعارف من دلالة على التقارب، والأنس ، والتجاور، والتساكن ، فضلا عن تبادل الخير المتعارف عليه بينهم كما جاء في بعض كتب التفسير، ذلك أنه من مقتضيات التعارف أن يكون بين المتعارفين تبادل المعروف بينهم .ولو حضر وازع التقوى عند قابيل كما حضر عند هابيل لما مد يده لقتل لأخيه ، وكذلك شأن كل بني آدم يدعوهم حضور وازع التقوى إلى إسداء المعروف إلى بعضهم البعض ، ويكون غيابه سببا في حدوث كل أنواع الإساءة المنكرة إلى بعضهم البعض.
ومعلوم أن أساس تقوى الله عز وجل هو التزام الصدق في توحيده منزها سبحانه و تعالى عن الشركاء ، ويترتب عن توحيده التزام شرعه دون انحراف عنه إنكارا أو تبديلا أو تغييرا.
وعند تأمل جرائم القتل عبر التاريخ ، نجدها تعزى إلى الخلل في توحيد الله تعالى ، ومن ثم في الإخلال بتطبيق شرعه ، وهما أمران متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر ، ذلك أن الخلل في التوحيد يفتح باب الشرك على مصراعيه ، وإذا ما فتح تسربت منه الشرائع التي من وضع المشركين ، وحلت محل الشرع الذي يفرضه التوحيد ، ويلزم به .
ولنضرب مثالا على ذلك انطلاقا مما وثقه كلام الله عز وجل ،ذلك أن الله تعالى مباشرة بعد ذكر جريمة القتل التي ارتكبها قابيل قال : (( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون )) ، وليس من قبيل الصدفة أن تلي هذه الآية من سورة المائدة سابقتها التي ورد فيها ذكر خبر قتل قابيل أخاه هابيل ، وليس من قبيل الصدفة أبضا أن يترتب عن هذه الجريمة شرع من الله تعالى ألزم به بني إسرائيل، والناس أجمعين ، وهو منع قتل النفس بغير نفس أو فساد في الأرض ،وقد جمع الله تعالى بين جريمة القتل ، وجرائم الفساد لتلازمهما ، ذلك أن الفساد بفضي بالضرورة مضار وأشدها ضررا جريمة القتل . وأكبر فساد يفضي إلى القتل هو فساد الاعتقاد الذي يترتب عنه تعطيل التوحيد، ومن ثم تعطيل الشرع المترتب عنه ، وبذلك يحل محله الشرك الذي تترتب عنه شرائع الأهواء الوضعية المنحرفة . وليس من قبيل الصدفة أيضا أن يخبر الله عز وجل في نفس الآية عن انحراف بني إسرائيل عما بلغه لهم أنبياؤهم من إخلاص توحيد الله تعالى ، وتطبيق شرعه، وذلك في قوله تعالى: (( ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون )) ، والإسراف هو تجاوز للحدود ،وإفراط في الأمور ، وما إسرافهم سوى إخلالهم بتوحيد الله عز وجل باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله مصداقا لقوله تعالى : (( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يوفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون )) ، ففي هاتين الآيتين من سورة التوبة بيان فساد اعتقاد بني إسرائيل يهود ونصارى حيث حاد كثير منهم عن عقيدة التوحيد إلى عقيدة الشرك التي هي كفر بواح باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم وعزير والمسيح أربابا من دون الله تعالى علوا كبيرا عما يصفون . ومعلوم أن المقصود باتخاذهم هؤلاء أربابا هو اعتمادهم ما شرعوه لهم من شرائع غير الشرع الذي شرع لهم الله تعالى .
ومما شرع أحبار اليهود لبني إسرائيل الذين اتخذوهم أربابا من دون الله تعالى استباحة سفك الدماء، وإزهاق الأرواح دون وجه حق ، مع أن الله تعالى بعث أنبياءه إليهم بالبينات التي فيها تحريم قتل النفس، والفساد في الأرض إلا أن أحبارهم أسرفوا ،وتجاوزوا ما شرع الله تعالى ، واستبدلوه بشرائع أهوائهم ، وزينوا لأتباعهم العقائد الفاسدة التي جاءت هي تحريف للتوراة كما أخبر بذلك الله تعالى في قوله : (( من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليّاً بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا )) ، والدليل على تحريفهم الكلم عن مواضعه أنهم أبطلوا توحيد الله عز وجل بنسبة الولد له ـ تعالى عما يصفون علوا كبير ـ وجعلوا أحبارهم أربابا من دونه جل وعلا ،كما أبطلوا ما شرع لهم باتخاذهم شرائع أهوائهم بما في ذلك استحلال سفك الدماء، والفساد في الأرض كما جاء في التلمود الذي صار بديلا عندهم عما أنزل الله تعالى على نبيه موسى عليه السلام، علما بأن ما بين نزول التوراة ، وتدوين الأحبار للتلمود زمن معتبر .
وها هم اليوم اليهود المتشبعون بالاعتقاد التلمودي المنحرف عن تعاليم التوراة يستبيحون سفك الدماء في أرض فلسطين ، وغيرها ، ويعيثون في الأرض فسادا ، ويزينون إزهاق الأرواح لجنودهم ولمستوطنيهم بكل وحشية وهمجية . ومعلوم أن أحبار اليوم كأحبار الماضي يستخفون بعقول أتباعهم ويسوقون لهم أوهاما ما أنزل الله بها من سلطان ، ويصورون لهم أهل فلسطين المسلمين اليوم كأنهم أعداء موسى عليه السلام ، و بذلك يحملونهم على الاعتقاد الباطل بأنهم يؤدون واجبا دينيا بسفك دمائهم، وهتك أعراضهم ، ومصادرة أملاكهم ، وأرضهم والعيثان فسادا فيها .
وليس اليهود اليوم وحدهم من يغريهم اعتقادهم الفاسد بالقتل والإفساد في الأرض ، بل تشاركهم في ذلك طوائف محسوبة على الإسلام مع الأسف ، وقد ابتدعت وغيرت ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتكون لديها تصور فاسد منحرف عن التوحيد بالاعتقاد أن لبعض الخلق ما استأثر الله تعالى بالقدرة وحده دون شركاء . وقد بلغ الأمر ببعضهم أن ينادوا ويسألوا بعض خلق الله تعالى ممن ساروا إليه ما لا يطلب إلا من رب العزة جل جلاله ، وما أوقعهم في ذلك اعتقادهم الفاسد الذي أوقعهم في الشرك ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . وإنهم ليعتبرون غرورا واسعلاء أن من ليسوا على اعتقادهم الفاسد يعتبرون خارجين عن ملة الإسلام ، ولذلك تستباح دماؤهم ، وتنتهك أعراضهم ، وتنهب أموالهم ، وتهدم مساكنهم ، ولنا مثال فيما وقع في العراق وفي سوريا من مجازر فظيعة في حق أهل السنة ،و سببها هو الانحراف عن التوحيد الخالص لله تعالى الذي ترتب عليه انحراف عن شرع الله تعالى وحلول شرائع الأهواء محله ، وهو فعل يضاهي فعل أحبار اليهود ، ورهبان النصارى المنحرفين عن التوحيد الخالص من شوائب الشرك مهما كان . ومن المؤسف أن من سفكوا دماء المسلمين في العراق وسوريا يُحسبون على الإسلام ، ومن أتباعه ، كما يحسب التلموديون والإنجيليبون المتصهينون على دين موسى وعيسى عليهما السلام ، وهما منهم براء .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين إلى ضرورة الثبات على عقيدة التوحيد الخالص من كل شوائب الشرك ، مع الحذر الشديد من السقوط فيما ينقضه تصريحا أو تلميحا من خلال استبدال شرع الله تعالى بشرائع الأهواء الوضعية ، علما بأنه ما أوقع من كان قبلنا في الشرك إلا اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله تعالى ، والعمل بشرائع أهوائهم عوض شرعه جل وعلا . وعلى المؤمنين تحري كل ما يشرع لهم اليوم من شرائع مما يستحدث أو يقتبس من شرائع أهل الملل الأخرى ، والتأكد عن طريق الرجوع إلى أهل العلم وسؤالهم عن مصداقيتها ،و عن موافق شرع الله عز وجل منها.
ومعلوم أن سلامة وصحة التوحيد إنما تتحققان بالدليل عليه من خلال التزام شرع الله عز وجل الالتزام الكامل ، كما أن الانحراف عن التوحيد إنما يقع باللجوء إلى شرائع الأهواء التي من وضع البشر. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ما كان من الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها ، وكان موافقا لشرعه سبحانه وتعالى ولما جاء في الكتاب والسنة مما فيه مصالح للمسلمين في معاشهم ومعادهم ،لا يمتنع الأخذ به إن كان غير المسلمين يعتمدون في معاشهم مع شرط التأكد منه بالرجوع إلى أهل العلم المستأمنين على تبليغ دين الله عز وجل للمؤمنين كما أمر. و يجب على المؤمنين أيضا تجنب اعتقاد نسبة القدرة على النفع والضر إلى يعض الخلق أمواتا وأحياء ،لأنها قدرة اختص بها الله تعالى وحده دون شركاء من خلقه . ولهذا لا يجوز التوجه بالدعاء إلى مخلوق مهما كان أو طلب النفع منه ، بل يجب التوجه إلى الله تعالى مباشرة ، وحسب من يدعو ويطلب غير الله تعالى قوله : (( ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ))
ويجب على المؤمنين كذلك التنبه إلى ما يمليه عليهم بعض رؤوس الفتن والنزعات العقدية والطائفية والعرقية من الذين يتاجرون بفتن ماضوية عفا عنها الزمن مما مر به المسلمون في فترات تاريخية عصيبة ،جرت فيها دماؤهم أنهارا ، وهتك الأعراض ، وسلبت الأموال ... ولنا اليوم عبرة فيما وقع في سوريا ما يزيد عن عقد من الزمان من فظائع سببها تحريض رؤوس الفتن الطائفية على تقتيل المسلمين السنة لمجرد اختلافهم عنهم فيما يعتقدون مما لا يصح لا في كتاب الله عز، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يتعسفون تعسفا في تأويل آيات وآحاديث ، ويلون أعناقها ليّا لتكريس اعتقادات ضالة تحرض على استباحة إزهاق الأروح ، وهتك الأعراض، وسلب الأموال، وكل ذلك من الارتزاق بأحداث تاريخية خاصة بأقوام صاروا إلى ربهم، وهم ينتظرون أن يقضي يينهم يوم القيامة بعدله الذي شعاره لا تزر وازرة وزر أخرى . ومع الأسف الأسى والحسرة تجار الفتنة الطائفية من الشيعة ليلقون في روع أتباعهم أن كل أهل السنة هم يزيد بن معاوية ، وأن كل الشيعة هم الحسين بن علي رضي الله عنهما ، وأن ما يُعمل من تقتيل في أهل السنة ، إنما هو انتقام لدم الحسين ، وأن سب ولعن الصحابة من صميم التدين .
اللهم إنا نسألك أن ترد الضالين عن ضلالهم إلى صراطك المستقيم ، وأن تظهر الحق على أباطيلهم ، وأن تعصم دماء، وأعراض، وأموال المسلمين ، واجمع كلمتهم على توحيدك توحيدا خاصا من شوائب الشرك ، واهدهم إلى تطبيق شرعك لا مبدلين ، ولا مغيرين ، ولا فاتنين ، ولا مفتونين يا أرحم الراحمين ، ويا رب العالمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1107