الصدام الحضاري في نسخته الآنية من منظور قرآني
لفظة " صِدَام " في اللسان العربي باعتبار صيغتها الصرفية تدل على اشتراك طرفين في الصدم الذي يعني الدفع بشدة . وللصدام أهداف منها تحقيق الغلبة ،والقهر، والسيطرة، والهيمنة ،والاستحواذ، الابتلاع.
أما لفظة "حضارة "، فتدل في اللسان العربي على ما يقابلها كنقيض وهي البداوة ، وهي عبارة عن انتقال تجمع بشري من حياة التبدّي إلى حياة التمدّن ، من خلال تطور يكون عبارة عن انتقال من حال إلى أخى تكون أفضل منها كما جاء في سورة يوسف وهو يخاطب أباه عليهما السلام : (( وقد أحسن بيَ إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو)) ، أي أسكنكم الحضر، وهذا يعني أن نبي الله يعقوب انتقل من حياة بداوة إلى حياة تمدن .
ومعلوم أن الانتقال من البداوة إلى الحضارة لا يكون له مظهر مادي فحسب، بل له مظهر لا مادي أيضا، وهو ما يسمى ثقافة ،وهي كلمة تدل على مجموع الأفكار،والمعتقدات ، والقيم ، والعادات ، والتقاليد وأنماط العيش لتجمع بشري يوجد في حيز جغرافي معين .
وبناء على هذا لكل من الحضارة والبداوة وجهان : وجه مادي ، وآخر لا مادي والعلاقة بينهما جدلية إذ يؤثر كل واحد منهما في الآخر ، ويتأثر به ، وتكون مخرجات المادي لامادية وهي عبارة عن سلوكات بشر بينهم تمايز، وتغريهم مصالحهم المادية واللامادية بالصدام مع بعضهم البعض من أجل المحافظة على هوياتهم الحضارية والثقافية من جهة ، ومن جهة أخرى من أجل ابتلاع حضارات وثقافات الأغيار وتذويها في بوتقة حضارتهم وثقافتهم .
ودون اعتماد أطروحات المفكرين الذين خاضوا في موضوع صدام الحضارات من أمثال المفكر السياسي الأمريكي صامويل هنتنغتون أو تلميذه المفكر السياسي والاقتصادي الياباني فوكوياما أو مفكرنا السياسي المغربي المهدي المنجرة رحمه الله ، وبالمناسبة تجدر الإشارة إلى أنه كان الأسبق إلى طرق هذا الموضوع قبلهما بشكل متميز عنهما ، سيكون منطلق الحديث في هذا المقال عن موضوع الصدام الحضاري في نسخته الآنية من منظور قرآني . وربما استوقفت البعض عبارة " النسخة الآنية " كنعت للصدام الحضاري المستهدف ، فتثير لديهم السؤال التالي : هل كانت لهذا الصدام نسخ سابقة لم تعد موجودة أو أصبحت متجاوزة ؟
والجواب عن هذا السؤال هو أن الذي فرض هذا النعت إنما هو أحدث حدث طارىء في العالم، ألا وهو حدث طوفان الأقصى الذي يعتبر مؤشرا على دخول العالم مرحلة تاريخية فارقة على غرار المراحل التاريخية السابقة كمرحلة الحربين العالميتين ، وبعدها مرحلة الحرب الباردة ، ثم مرحلة هيمنة القطب الرأسمالي الليبيرالي الوحيد مقابل انهيار القطب الشيوعي المنافس له، والذي كان المؤشر على انهياره حدث سقوط جدار برلين مؤشرا لما له من دلالة رفض واقع مفروض قسرا ، والانتقال إلى آخر .
واليوم ومع حدث طوفان الأقصى ،سيعرف العالم لا محالة تحولات تأتي بالجديد غير المتوقع بحيث تحل بدائل عن استحواذ الرأسمالية الليبيرالية ، لأن دوام الحال من المحال كما يقول المثل العربي أو كما قال الشاعر أبو البقاء الرندي الذي رثى زوال الفردوس المفقود :
لكل شيء إذا ما تمّ نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
ومعلوم أن الدلالة الرمزية لطوفان الأقصى هو عودة الكفاح المسلح الذي كانت تخوضه الشعوب في القرن التاسع عشر ضد المحتل الغربي الذي احتل أواطناها بالقوة في مرحلة ما بين الحربين الكونيتين . وها هو اليوم الشعب الفلسطيني الذي اغتصب أرضه الكيان الصهيوني بمساعدة المحتل البريطاني الذي سلم لمن لا ستحق ما لا يملك ، ولم ينعم باستقلاله كباقي شعوب العالم . وظل هذا الشعب يعيش في مخيمات ، وفي الشتات لعقود، والعالم الغربي الداعم للكيان الصهيوني يماطل ، ويسوف على استقلال بلاده عن طريق ما سمي بمسلسلات سلام ،وهي في حقيقة الأمر مجرد فرض استسلام على شعب اغتصبت أرضه بالقوة.
وبعدما تأكد الشعب الفلسطيني بما لا يدع مجالا للشك من تآمر الغرب الواضح والجلي عليه مع الكيان الصهيوني في ظرف طبخ فيه ما سمي بصفقة القرن، التي تهدف إلى التمكين له كي يحقق وهم وطنه التلمودي الممتد على حدج زعمه من النهر إلى البحر في مرحلة أولى ليتمدد بعد ذلك إلى ما هو أبعد كما تلوح بذلك خرائط يعرضها للرأي العام العالمي ، ولهذا كان لا بد له من حمله السلاح لاسترجاع ما سلب منه بالقوة تحت شعار " نصر أو استشهاد "ّ، وهو ما يعني أنه لا استسلام في الصدام الحضاري في نسخته الحالية بين الحضارة الغربية الرأسمالية الليبرالية المتوحشة والمخربة التي تتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها في دول أوروبا الغربية ،وباقي العالم ، ومعها الكيان الصهيوني المستنبت في أرض فلسطين ، وبين الحضارة الإسلامية البانية التي تُحارب بكل شراسة، وحدة ، وضراوة لا تقل عما كان عليه الحال إبان الاحتلال الغربي لمعظم بلاد الإسلام عربية ، وغيرعربية .
ولفهم الصدام الحضاري في نسخته الحالية ،يجب الانطلاق من أصح مصدر وهو كتاب الله عز وجل الذي ألقى الضوء منذ أربعة عشر قرنا على طبيعة هذا الصراع ، وسماها بأصح ما يجب أن يسمى عوض التسميات التي أطلقت عليه عبر مراحل التاريخ . ومعلوم أن بدايته كانت خارج كوكب الأرض في الملإ الأعلى حين أعلن إبليس اللعين تمرده على أمر الخالق سبحانه وتعالى ، واستنظره إلى نهاية العالم فأنظره كي يدير أطوار الصدام بين حضارة ربانية بانية ، وحضارة إبليسية هادمة ،ومخربة ، والمتصادمون مخلوقات آدمية . ومعلوم أم قوام الحضارة الربانية هو توحيد الخالق سبحانه وتنزيهه عن الشركاء ، والأخذ بشرعه الداعي إلى الصلاح والإصلاح في الأرض ، والذي به تتحقق سعادة البشر في الدنيا والآخرة ، بينما قوام الحضارة الإبليسية الكفر أو الشرك بالخالق سبحانه وتعالى ، والأخذ بالشرائع الوضعية التي هي من إملاء إبليس، والداعية إلى الفساد والإفساد في الأرض والتي فيها شقاء البشر في الدنيا والآخرة .
ويكفي أن نستعرض مسار هذا الصدام الحضاري من خلال ما قصه القرآن الكريم من قصص الأمم المتعاقبة على عمارة الأرض من لدن نبي الله نوح عليه السلام إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
ومعلوم أن الله تعالى قد بعث في البشرية أنبياء ورسل صلواته وسلامه عليهم أجمعين لمواجهة الفساد والإفساد الإبليسي كي لا يكون للناس على الله عز وجل بعد هؤلاء المرسلين . ولقد كانت غاية الرسالات السماوية المتتالية هو الصلاح والإصلاح في الأرض ، ومحاصرة كل فساد أو إفساد فيها لأن هذا الأخير طبيعته التسبب في إزهاق الأرواح البشرية مصداقا لقوله تعالى : (( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا )) ، وهكذا كانت حضارة توحيد الله عز وجل البانية محيية للناس بمنع إزهاق أرواحهم ، وبمنع إشاعة الفساد بينهم في الأرض التي يحيون فوقها ، بينما كانت حضارة إبليس الهادمة مستبيحة لأرواح ودماء الناس ، ومشيعة للفساد في الأرض. ولقد كان الحوار بين المرسلين من عند الله عز وجل صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، وبين أتباع إبليس من كفار ومشركين في كل الأزمنة السالفة يدور حول دحض الأطروحة الإبليسية ، وهي أطروحة الإغواء والاستدراج إلى الفساد التي نطق بها إبليس اللعين نفسه ، ونقلتها على لسانه القرآن الكريم وهي : (( وقال لأتّخذنّ من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلّنّهم ولأمنّينّهم ولآمرنّهم فليبتّكن آذان الأنعام ولآمرنّهم فليغيّرنّ خلق الله )) ، فهذه المقولة تعكس طبيعة الحضارة الإبليسية الفاسدة والمفسدة في الأرض ، والتي يوكل إبليس أمرها إشاعتها لنصيبه المفروض من غواة بني آدم الذين يغويهم. وهذه الحضارة الإبليسية لها جانب مادي يعبث به الغواة أيما عبث، وذلك بأمر من إبليس اللعين، ولها جانب لا مادي أيضا عبارة عن ثقافة الفساد والإفساد في الأرض ، في مقابل حضارة التوحيد البانية بجانبها المادي كما خلقه الله تعالى وفق قوانين وضوابط ، وبجانبها اللامادي الذي هو عبارة عن ثقافة الصلاح والإصلاح في الأرض .
وليست مرحلتنا التاريخية اليوم مختلفة عن المراحل التاريخية التي سردتها رسالة القرآن الكريم التي ختمت بها الرسالات المتعاقبة من حيث الصدام الحضاري بين حضارتين لا ثالثة لهما ، حضارة الفساد والإفساد ،ومرجعيتها العقدية الكفر والشرك بالله تعالى ، وحضارة الصلاح والإصلاح، ومرجعيتها العقدية توحيد الله عز وجل ، ولا عبرة بالمسميات الأخرى التي تسمى بها حضارة الفساد والإفساد حيث تنسب إلى شعوب أو أقطار ، لأن الكفر ملة واحدة ، كما أن التوحيد ملة واحدة .
وقد يعترض البعض على وصف الحضارة التي مرجعيتها العقدية الكفر والشرك بحضارة الفساد والإفساد ، ويكون اعتراضهم عن طريق السؤال الآتي : أليس في هذه الحضارة صلاح أو إصلاح ؟ والجواب عنه يكون بسؤال مقابل له، وهو : هل البشرية اليوم بخير في ظل عالم تسوده الحروب الطاحنة بأسلحة دمار شامل يهلك الإنسان والعمران ؟ وهل الحروب صلاح وإصلاح ؟ ألم يكن أولى بما يصرف على التسلح من أموال خيالية ، وما يبذل من جهود مضنية في صنعها أن يكون لصيانة الحياة البشرية عوض هلاكها ؟ أليس من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ؟
ولنتأمل الجانب اللامادي في الحضارة الغربية المهيمنة اليوم ، ونستعرضه من خلال ثقافتها التي تميز الإنسان الغربي عن غيره ، وتعتبره سيد العالم ، ونموذجا يلزم غيره أن يقتدي به في اعتقاده قسرا بما تسميه الفلسفة الغربية كاعتقاد منها موت الإله، وتأليه الإنسان الغربي تحديدا وحصرا دون غيره ممن يعدون مجرد مخلوقات قد تشبه عند البعض بالحيوانات كما صرح بذلك الصهاينة مؤخرا في حربهم على الفلسطينيين الدائرة في غزة، علما بأن الصهاينة يحسبون على العالم الغربي حضارته وثقافته ، أليس كل هؤلاء على قناعة أسلافهم في المقولة التي حكاها القرآن الكريم على لسان أسلافهم وهي اليوم تنطبق على أخلافهم : (( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه )) ، وفي مقولتهم (( ليس علينا في الأميين سبيل )) ؟ أليس الفلسطينيون يقتّلون اليوم على أيديهمـ ويمثل بهم تمثيلا تحت ذريعة انعدام آدميتهم ؟ فأية حضارة هذه التي صارت شرائح طويلة عريضة من شعوب العالم الغربي تخرج في مظاهرات ومسيرات حاشدة مستنكرة عنصريتها ونازيتها ووحشيتها ؟ وما هي طبيعة اللامادي في هذه الحضارة المتوحشة إذا كان المادي هو أسلحة تهلك الحرث والنسل ، وتدمر الإنسان والعمران ؟ ولا عبرة بالمادي الاستهلاكي الذي يعيش الإنسان الغربي في بحبوبته ، بينما يعيش غيره في ضنك ومجاعة وأوبئة ، وضياع .
وسنعرض عن استعراض اللامادي الغربي الذي أفسد الطبيعة البشرية من خلال إشاعة الفواحش فيها ظاهرة وباطنة ، و التي لم يكتف بفرضها في العالم الغربي، بل صارت شعوب وأمم الأرض مطالبة بإشاعتها في مجتمعاتها ، وملزمة قسرا بها وإلا لا تشطب من قائمة المتطهرين المدانين بجرم الطهر كما حكى الله تعالى عن أسلاف متفحشي هذا العصر من قوم نبي الله لوط عليه السلام في قوله تعالى على لسانهم ،وهم يعيبون عن نبيهم ومن معه الطهر والعفاف : (( قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون )) . ودعاة الفحش اليوم ومسوقيه يحاربون دعاة الطهر التي هي من خصائص الفطرة البشرية السوية التي فطر الله تعالى الناس عليها ، وأقسم إبليس اللعين بأنه سيدعو أتباعه إلى تغييرها إفسادا لها .
نعود من جديد لنقول إن حدث طوفان الأقصى حدث بالغ الأهمية ، وقد بدأت تداعياته تنبىء بدخول البشرية مرحلة تاريخية جديد من عمرها سيطاح فيها بعرش الفساد والإفساد في العالم ، ولهذا وُوجه هذا الطوفان بقوة وشراسة من طرف الحضارة الغربية التي نزلت بكل ثقلها كي تجتث شأفة صناع هذا الطوفان الذي جاء ردا على هيمنة الفساد والإفساد ليس في فلسطين وحدها بل في كل العالم ، وقد بلغ درجة غير مسبوقة باعتبار طبيعة ونوعية الجانب المادي غي الحضارة الغربية ، والذي صمم خصيصا ليكون فيه دمار وهلاك البشرية ، وباعتبار الجانب اللامادي الموازي له ،والذي تعكسه بكل جلاء طبيعة الثقافة الغربية التي يراد عولمتها في كل العالم وفرضها قسرعلى كل شعوب المعمور .
إن صناع طوفان الأقصى تربوا على اللامادي في حضارة التوحيد وفي ثقافتها الداعية إلى إشاعة الصلاح والإصلاح على أوسع نطاق ، وشعارها في ذلك قول الله تعالى على لسان نبيه الكريم شعيب عليه السلام : (( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب )) .
وأخيرا نكرر مرة أخرى أن حدث طوفان الأقصى ستكون له تداعيات على المدى القريب، والمتوسط ،والبعيد ، وسيدخل بسببه العالم مرحلة تاريخية جديدة كغيرها من المراحل السابقة . والصدام بين حضارة التوحيد المنزهة للخالق سبحانه وتعالى، والبانية للإنسان والعمران ، وبين حضارة تأليه الإنسان الهادمة له وللعمران، والمستخدمة لطوابيرها الخامسة في طول وعرض بلاد الإسلام لتنوب عنها في إشاعة فسادها وإفسادها سيفضي لا محالة إلى إحقاق الله تعالى للحق، وإظهاره للصلاح والإصلاح ، مقابل إزهاق الباطل ، ومحق الفساد والإفساد . وإن هذا المتوقع إن شاء الله تعالى آت لا محالة جريا على سننه الماضية في خلقه، والتي يعكسها قوله جل وعلا : (( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد )) صدق الله العظيم.
وسوم: العدد 1108