آلية التأمل ومنهجية التفكر في الكون والإنسان والحياة
آلية التأمل ومنهجية التفكر
في الكون والإنسان والحياة
هائل سعيد الصرمي
وفق آلية محددة وشروط واضحة ,تبين مسار الوصول للتأمل السليم ومنهجية التفكر القويم المثمر الذي يتكون به تصوراً حيا للوجود وخالقه تصور عقدي سليماً متناغما مع الكون ومنسجما مع الفطرة , مرتبطا ارتباطا وجدانيا قويا بخالق الوجود وحميما بالكون والإنسان والحياة يبعث على الرضا والطمأنينة , هو الالتفات للقرآن والكون معاً فالحق سبحانه وتعالى يدعونا أمراً للالتفات إلى آيات الكون لنتعرف عليه من خلالها , فيتكون لدينا ذلك التصور الذي يخلق مساراً سلوكيا راشدا وتوحيدا ربانيا خالصا ,وألفة تذهب الوحشة مع كل موجودات الوجود, وقد تجلت به آيات القرآن التي تدعو للنظر في الكون والإنسان والحياة , و جليا في الآيات التالية.
{إن في خلق السماوات والأرض ،واختلاف الليل والنهار ،لآيات لأولي الألباب.الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم،ويتفكرون في خلق السماوات والأرض:ربنا ما خلقت هذا باطلا.سبحانك ! فقنا عذاب النار.ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ،وما للظالمين من أنصار ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان : أن آمنوا بربكم . فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا ، وتوفنا مع الأبرار . ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد} آل عمران.19
آلية التأمل وشروطها
إن عملية التَّفّكُّرْ في آيات السموات والأرض ليست أمراً هينا يمكن أن يتناوله العبد بسهولة متى شاء وكيف شاء كلا . إن الأمر يحتاج إلى همة عالية, وأهبه وإعداد واستعداد , إنه لا يتسنَّى رؤية آيات السماوات والأرض الرؤية المبصرة الحية إلا بقلب حي متفتح يسعى لذلك. فلا يتم الدخول في تناغم وجداني مع هذه الآيات المبثوثة في الأرض والسموات وتذوق حلاوتها والتعرف على أوصاف مبدعها , إلا بشروط ثلاث , بينتها الآيات أعلى , الشرط الأول أنها حصرت ذلك على أولي الألباب ـ أصحاب العقول ـ ,لقوله تعال:( إن في خلق السماوات والأرض،واختلاف الليل والنهار،لآيات لأولي الألباب).وهم كل من عرفَ الحق واهتدى إليه, ثمَّ الذاكرون الله كثير , وهذا هو الشرط الثاني لأن الأول لا يكفي وحده للوصول إلى حدائق التفكر ! فالعقل وحده يحتاج إلى طاقة روحية , يستمدها من القلب الذي يتم تعبيته بها عن طريق الذكر بكل أنواعه فمن الذكر والأعمال الصالحة,.والقلب بدوره يوزع هذه الطاقة إلى جميع أعضاء الجسد ويأخذ العقل أوفر الحظ والنصيب ليعمل ويضيف طاقة أخرى من مجهوده إلى القلب وهكذا عملية دورية دينامكية نامية ومثمرة . فالقلب والعقل متعاونان يكمل بعضهما البعض فلا غنى لأحدهما عن الأخر. فلا يتفكر العقل إذا لم يكون بجواره القلب وليس أي قلب بل القلب الحي المفتوح المهيأ لاستقبال آيات الكون , وهذا القلب لا يكون كذلك إلا بالذكر قال تعالى:"الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم وهذا الذكر وظيفته إذابة غشاوة القلب وتصفية أكنَّته ورانه وحجبه التي تكونها المعاصي والغفلات , وبالذكر تمحى وتزول هذه الأكنه, ليصبح قلبا حيا مستعدا لتلقي آيات الله في الكون والآفاق, بعد أن يتهيأ القلب يبدأ عمل الشرط الثالث وهو التفكر,وذلك بالتفاتْ العقل إلى الكون ليتفكر فيستقبل القلب الآيات ويتقلب بين مغاني الأنس والمعرفة والخشية! فالكون يبث له بأسراره ,ويكاشفه عن أخباره, فيتعانق مع الموجودات التي كان يراها جامدة من قبل ولا يجدها قريبة منه تعانقا وجدانياً ,إنه يجدها اليوم لصيقة به قريبة من نفسه ومشاعره كأنه يعرفها من زمان بعيد وكأن بينه وبينها مودة وألفة وعهود ومواثيق على أهداف محببة مشتركة يقومان بها وينسجمان في تنفيذها ومن خلال الشعور والأنس بها, تصبح هذه الآيات للقلب حية مؤنسة بأحلامها وأشواقها وحديثها التي تفضي به إليه وتخصه دون سواه بما تخصه من نجوى وحوار فيتحاور معها كما يتحاور الحبيب مع حبيبه والصديق مع صديقه في ألفة وانسجام , كأحسن خليل وأجمل حبيب , فلا يجد أنسه إلا بها ولا راحته إلا عندها كل آية حبيبة لديه تعددت حبيباته وكثر أصحابه وأصدقائه حيثما التفت وأنَّ توجه هيهات أن يدهمه الغم والكدر أو يدلف إليه الملل. إنها آيات الكون حبيبة توصل إلى الحبيب فيأنس القلب بحبيب لا يغيب ويتعرف على الله أكثر بقلب وجيب , لسان حاله قول الشاعر.
ومِـمَا زادني خوفا وذلاً عجائب آيه وغياب فكري
وكنت إذا غفوت أحن وصلا لآيات بهـذا الكون تجـر
وكنت إذا ذكرت أرى صفاء وأنسا بالوجود يغذي سري
وأرشف من بديع الكون نورا أبدد حزن أيامي وعـمري
مدارات شروط التفكر
لنعرف الشروط ودورها وأهمية كل واحد منها وارتباطه بالأخر فالثاني الذي بينته الآية يبين لنا صفة أولي الألباب الذين يصلحون لاستقبال آيات السماء والأرض ؟ إنهم.( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ..ويتفكرون . ليس ذكرا محدودا في وقت معلوم إنه يستوعب التقلبات المتنوعة لأحوال العبد عبر أوقاته كلها , ومضمون ذلك الإكثار من ذكر الله عز وجل , وديمومة الاتصال به ,بمعنى أن العبد الذي لا يكون ذاكرا على كل أحواله لا يكون مكثراً وبالتالي لا يتأهل للوصول إلى ميدان التفكر!لأنه لم يكن من أولي الألباب الموصفين بالذكر الكثير ,فأولي الألباب ليس جميعا موصوفين بالذكر الكثير منهم المقل ومنهم المكثر , لذلك لا يفتح الباب فتحا كاملا للعبد المتفكر إذا لم يتحقق بتمام الشروط وكمالها ولو حقق بعضها, ينال بحسبه وبقدر ذكره , ولكن الذروة تقتضي الإيفاء. فكل ما كان العبد مشغولا بالله أكثر كان ميدان فكره أكبر. وإن اختلفت وسائل الذكر وطرائق الاتصال فلا ضير في ذلك, فالمنشغل بالله يسمى ذاكراً سواء كان ذكراً عملياً أو قو لياً أو غير ذلك من سبل الذكر ,فالتقوى ذكر والدعوة ذكر إلخ...فكلما سيطر ذكر الله على الضمير والشعور سيطرة كاملة وبصورة دائمة كما فصلتها الآية قياما وقعودا وعلى جنوبهم , وجدت الفائدة وتحقق المراد , وتأهل العبد لتلقي آيات خالقه والتعرف على صفاته , إنها لذة لا تعدلها لذة. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
منهجية التفكر
وكما بينت الآيات شروطاً للوصول إلى حدائق التفكر , وضعت منهجية أيضا للتفكر في
السموات والأرض فليس أي تفكر يصلح لمقصود القرآن ,إننا متعبدون بالتفكر الذي يفضي إلى الحالة الوجدانية الخالصة التي يعبر عنها من وصل بقوله: ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.. هدفٌ ونتيجة , هذه الآية هي التي تحدد منهجية التأمل والتفكر.فهي الضابط للبداية كي تأتي هذه النهاية , لذلك قالوا يعرف الفعل بنتيجته , فا النهايات تدل على البدايات كما تدل البدايات على النهايات.ومن كانت بدايته مشرقة كانت نهايته مشرقة ..فالمقدمات تدل على النتائج كما تدل النتائج على المقدمات سواء بسواء.ومنهج التفكر هو النظر لعظمة مكوكب الكواكب ومبدعها والأخذ بيدها وفاطر السموات والأرض من خلال التفكر بالآيات و مكونها, فالباحثين اليوم يتفكرون بعيدا عن هذا المعنى العظيم في الجانب العلمي أو القوانين المنظمة دون أن يقودهم هذا التفكير وهذا العلم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم يعلمون ظاهر من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون نسأل الله السلامة والعافية و نسأل الله التوفيق في كل شأن وغاية وأن يرزقنا التفكر في آياته المبثوثة في أرضه وسمائه على ما يرضه , إنه جواد كريم. إذا ما كنت ترجو الله حقا فأدي الذكر في عسر ويسر
فذكر الله بلسم كل جرح وسَبْحُ تأمُّـلٍ وعُلو قـدرِ
مقتضب من أقول بعض المفسرين حول الآيات السالفة
قبل أن ندخل في الظلال وفي ما قاله سيد قطب في الآيات السابقة نورد ما ذكره بعض المفسرين حول الآيات أعلى , البيضاوي في تفسيره لقوله تعالى :{ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السموات والأرض } أورد حول أهمية التفكر قوله: الاستدلال والاعتبار أفضل العبادات لقوله عليه الصلاة والسلام « لا عبادة كالتفكر)[1]" وقال النيسبوري:" إنه لما طال الكلام في تقرير القصص والأحكام عاد إلى الغرض الأصلي من هذا الكتاب الكريم وهو جذب القلوب والإسرار بذكر ما يدل على التوحيد والكبرياء ، وقد أورد حديث , عن ابن عمر, قلت لعائشة : أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فبكت وأطالت ثم قالت : كل أمره عجب . أتاني في ليلتي فدخل في لحافي ، حتى ألصق جلده بجلدي ثم قال : يا عائشة ، هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي؟ فقلت : يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب هواك قد أذنت لك . فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ، ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حقوية ، ثم جلس فحمد الله وأنثى عليه وجعل يبكي ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه فقد بلت الأرض . فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال له : يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : يا بلال ، أفلا أكون عبداً شكوراً؟ ثم قال : وما لي لا أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة { إن في خلق السموات والأرض...الخ } ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)"[2]
ومن تفسير الدر المنثور, أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والأصبهاني في الترغيب عن عبد الله بن سلام قال « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتفكرون فقال : لا تفكروا في الله ولكن تفكروا فيما خلق »[3]
لا تَكمُلُ فائدة الذكر إلا بالفكر
يقول صاحب تفسير المنارفَالَّذِينَ يَشْتَغِلُونَ بِعِلْمِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وهُمْ غَافِلُونَ عَنْ خَالِقِهِمَا ، ذَاهِلُونَ عَنْ ذِكْرِهِ، ُمَتِّعُونَ عُقُولَهُمْ بِلَذَّةِ الْعِلْمِ ، وَلَكِنَّ أَرْوَاحَهُمْ تَبْقَى مَحْرُومَةً مِنْ لَذَّةِ الذِّكْرِ َمَعْرِفَةِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ، فَمَثَلُهُمْ كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : كَمَثَلِ مَنْ يَطْبُخُ طَعَامًا َهِيًّا يُغَذِّي بِهِ جَسَدَهُ ، وَلَكِنَّهُ لَا يَرْقَى بِهِ عَقْلُهُ ، يَعْنِي أَنَّ الْفِكْرَ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ مُفِيدًا لَا تَكُونُ فَائِدَتُهُ نَافِعَةً فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِالذِّكْرِ ، وَالذِّكْرُ وَإِنْ أَفَادَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا تَكْمُلُ فَائِدَتُهُ إِلَّا بِالْفِكْرِ ، فَيَا طُوبَى لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ لْأَمْرَيْنِ وَاسْتَمْتَعَ بِهَاتَيْنِ اللَّذَّتَيْنِ ، فَكَانَ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ، وَنَجَوْا مِنْ عَذَابِ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ ، فَتِلْكَ النِّعْمَةُ الَّتِي لَا تَفْضُلُهَا نِعْمَةٌ ، وَاللَّذَّةُ الَّتِي لَا تَعْلُوهَا لَذَّةٌ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يَهُونُ مَعَهَا كُلُّ كَرْبٍ ،وَيَسْلُسُ كُلُّ صَعْبٍ ، وَتَعْظُمُ كُلُّ نِعْمَةٍ ، وَتَتَضَاءَلُ كُلُّ نِقْمَةٍ ، تِلْكَ اللَّذَّةُ الَّتِي تَتَجَلَّى مَعَ الذِّكْرِ[4]
[1] أنوار التنزيل وأسرار التأويل المؤلف : ناصر الدين أبو الخير عبدالله بن عمر بن محمد البيضاوي
[2] تفسير النيسابوري
[3] ـ الكتاب : الدر المنثور في التأويل بالمأثور المؤلف : عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال لدين السيوطي : إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
5 ـ :تفسير أبو السعود ، محمد بن محمد بن مصطفى العمادي
[4] الكتاب : تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) المؤلف : محمد رشيد بن علي رضا (المتوفى : 1354هـ) الناشر : الهيئة المصرية العامة للكتابسنة النشر : 1990 م عدد الأجزاء : 12 جزءا