الخشوع في الصلاة
د. محمد كمال الشريف
من كتاب سكينة الإيمان - الطبعة الثانية - قيد الإعداد
الصلاة
الفصل الاول:
حديث النفس وحضور القلب
إن واحدة من أهم مزايا الإنسان: قدرته على أن يفكر بما وراء اللحظة الراهنة، وبما وراء المكان الذي هو فيه.. إنه قادر على تذكر الماضي، وعلى التفكير بالمستقبل وعلى العيش من خلال خياله في أماكن ومواقف غير التي هو فيها.
إنه قادر على استباق الأحداث، وتصوّرها والتخطيط لها وقادر على إعادة النظر في الماضي، ومراجعة النفس، والحكم على ما فعلته ليستحسن ما يراه صواباً، وليلومها على ما أخطأت فيه.
وهذه القدرة على تجاوز الواقع الراهن، واللحظة الراهنة مفيدة جداً للإنسان، ولا بدّ منها ليتمكن من الإبداع والتخطيط في أي مجال.
لكن التفكير بما وراء اللحظة الراهنة والواقع القائم يجعل الإنسان حاضراً بجسده، غائباً بعقله، وإذا ما سيطر هذا التفكير على الإنسان صار عقله في حالة مستمرة من (حديث النفس) حيث يتوقع شيئاً، ويفكر كيف يمكنه أن يتصرف عند حدوثه، ثم يتوقع احتمالاً آخر، ويقلّب الفكر فيما عساه يقول أو يتصرف.
وتتعدد الاحتمالات ويستمر التفكير وانشغال البال وهكذا يستمر غياب الإنسان الجزئي عن واقعه ولحظته الراهنة، فتراه شارد الذهن كلما خلا بنفسه، أي: كلما صمت، ولم يتحدث مع غيره، حتى لو كان بين ألف إنسان، انه معهم لكن فكره في زمان آخر ومكان آخر... حتى حين يستمع إلى الآخرين وهم يحدثونه فإنه لا يجيد الإصغاء إليهم، فلربما كان أثناء استماعه إليهم مشغولاً في تحضير ما سيقوله عندما يسكتون، ويأتي دوره في الحديث.
إنه يسمع، لكن قلبه لا يصغي، وهو ينظر، لكنه لا يكاد يرى، وهكذا وبمرور الوقت يتحول ما كان جميلاً في عينيه عندما رآه لأول مرة إلى شيء عادي لا جمال فيه، لأن عقله في انشغال دائم عن اللحظة الراهنة، والبقعة الراهنة ولا يخرجه من انشغاله وشروده هذا إلا الجديد والصارخ.
وهكذا عندما تنشغل النفس في حديثها شبه الدائم يحرم الإنسان من التمتع بالجمال الذي حوله، ويقل إحساسه بواقعية ما حوله ومن حوله وحقيقتهم، فيقوم بأفعاله بطريقة فيها قدر كبير من الآلية، ويصبح التفكير بما يفعله أو يقوله يتم بعيداً عن بؤرة الوعي والشعور، فقد تراجع إلى خلفية الوعي وهكذا يؤدي هذا الإنسان ما يؤديه وعقله غائب مستغرق في تفكير حالم لأنه في حديث النفس كالذي يسرح في أحلام اليقظة، إنه غافل عن العالم الحاضر الذي تدركه حواسه، ولم يترك لهذا العالم الحاضر سوى جزء من وعيه، لذا فهو يؤدي ما يؤديه بطريقة شبه آلية، إنه يقوم به لكنه (لا يعقله) أي: لا ينتبه لما يؤديه من قول أو فعل، إنه كالذي يمشي في الأسواق ويرى الأشياء والأشخاص وفكره مشغول بغير ما يرى... إنه يمشي بينهم دون أن يصطدم بهم، لكنه لم يرهم حق الرؤية، الرؤية التي يكون فيها القلب حاضراً، أي: منتبهاً لما يقول، أو يفعل، أو يحس.
صحيح أن قدرة الإنسان على القيام بالكثير بطريقة شبه آلية فيه توفير للطاقة العقلية كي تتفرغ لما هو مهم، لكن إن صارت هذه الطريقة شبه الآلية في القول والفعل والإدراك غالبة على الإنسان أغلب وقته، تشغله بحديث النفس عما هو قائم ( الآن) و ( هنا) بل يكون في حالة من التفكير الحالم المقيم في الماضي أو المستقبل.. بينما يشكل حضور القلب والعيش في اللحظة الراهنة الأساس للقدرة على الابتهاج والتمتع بما أنعم الله علينا في دنيانا، كما يشكل الأساس للقدرة على الشعور بالعواطف والمشاعر الحميمة وتبادلها فيما بيننا سواء منها المشاعر الأخوية أو الجنسية، أما من يعيش مع الذكريات في الماضي أو المخاوف في المستقبل فإنه يفقد قدراً كبيرة من القدرة على الابتهاج والتمتع والشعور بالعواطف، لأنه حاضر بين الناس بجسده، وقلبه ولبه شارد ساه غائب.
إن حدث هذا فإن الإنسان يفقد حالة (الانتباه) و (حضور القلب) الممتعة، وتصبح عودته إليها أمراً صعباً ويفقد هذا الإنسان الكثير من سكينته وطمأنينته، ويكون لا بدّ له من أن يدرّب نفسه على الانتباه، وحضور القلب، وعلى التحرر من حديث النفس والتفكير الحالم حتى يتسنى له أن يعيش لحظته الراهنة، بما فيها من مدركات ومشاعر وأفكار وأفعال، ليحس بالوجود الحقيقي لكل شيء من حوله، فلا يبقى خارج حدود الزمان والمكان القائمين.
وليس كالإيمان والعبادة معيناً على ذلك التحرر، وعلى تلك العودة إلى الانتباه وحضور القلب بحيث لا تحزنه الذكريات، ولا تقلقه احتمالات المستقبل المجهول.
الفصل الثاني :
الخشوع وحضور القلب في الصلاة
يخلط كثير من المسلمين بين الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها ويظنون أنهما شيء واحد، وهما في الحقيقة مختلفان وإن كان كلاهما مرغوباً في الصلاة ويدل على الإحسان في أدائها.
المقصود بحضور القلب أن يتوقف الإنسان عن حديث النفس وعن العيش مع الأفكار التي تمر في الذهن والغياب عن الواقع وما فيه، فلا يستغرق في الذكريات ولا في توقعات المستقبل أو غير ذلك مما يشغل البال، فإذا توقف العقل عن التفكير بما هو غير حاضر أمامه أو غير الذي يقوله أو يفعله في تلك اللحظة قلنا إن القلب أصبح حاضراً في الزمان والمكان الحاضرين ولم يعد شارداً في أفكاره.
إن انشغال الذهن بحديث النفس الذي هو أفكار وتخيلات يتجاوز الإنسان بها اللحظة الراهنة والمكان القائم والموقف الحاضر، هذا الانشغال طبيعي ومفيد ليتمكن الإنسان من مراجعة ما مر به أو الاستعداد لما هو مقدم عليه وللبحث عن حلول للمشكلات التي يواجهها، لكن الاستغراق شبه الدائم بحديث النفس يحرم الإنسان من الراحة ومن الانتباه لما يراه ويسمعه ويدركه بحواسه الأخرى.. ومؤخراً تنبه علماء النفس لأهمية استعادة الإنسان لقدرته على العيش بكل ذهنه وانتباهه في اللحظة الراهنة حيث يهدأ القلق ويتحسن المزاج ويزداد الإنسان صحة نفسية. وقد تعلم علماء النفس الغربيون ذلك من الديانة البوذية ورياضاتها النفسية وأسموه الانتباه أو الوعي الخالص ((mindfulness لأن الإنسان يكون فيه واعياً لما حوله وعياً كاملاً لا يضعفه انشغال الذهن بأية أفكار أو تخيلات، وأبدعوا تدريبات عليه لمساعدة الأشخاص المتوترين على التخلص من توترهم.
لقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على إيقاف حديث النفس في الصلاة وحضور القلب فيها ما استطعنا حتى جعل ثواب ركعتين لا يحدث الإنسان فيهما نفسه مغفرة ذنوبه كلها. فقد روى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ذات مرة ثم قال: ((من توضأ مثل وضوئي هذا، ثم قام فصلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه بشيء غفر الله له ما تقدم من ذنبه)) (رواه النسائي).
ولا يحسبن الإنسان أن التوقف عن حديث النفس ركعتين أمر سهل، لأن عادة التفكير بما ليس أمامنا عادة مستحكمة وغلابة ويحتاج الإنسان إلى مران كثير ليتمكن من إيقاف حديث النفس إيقافاً كاملاً طيلة ركعتين يصليهما، وهكذا تصبح الصلاة تدريباً يومياً على حضور القلب وإيقاف حديث النفس لابد أن تفيد المؤمن نفسياً فائدة لا يحصل عليها غيره إلا بتدريبات طويلة وجهد كبير دون أن يتوقع عليها ثواباً إلا تلك الفائدة النفسية بينما هي للمؤمن عبادة تقربه من خالقه وتمحو عنه ذنوبه.
ولعل أهم ما يساعد المؤمن على حضور القلب في الصلاة إدراكه أنها عماد الدين واعتباره لها أنها أهم عمل يقوم به بعد الإيمان بالله، واستشعار الأهمية البالغة للصلاة يجعل النفس تتفرغ لأدائها وتكف عن الانشغال بغيرها فيحضر القلب ويتحقق الوعي الخالص، أما عندما يقال للمؤمن أن الصلاة لن تأخذ منه إلا دقائق قليلة يعود بعدها لما كان فيه من نشاط فإنه يعتبرها أقل أهمية من غيرها من الأعمال مما يقلل من قدرته على حضور القلب فيها، وإن كان ذلك مفيداً في تشجيع المتكاسل عن الصلاة ليبدأ بالالتزام بها. إذاً حتى يحضر القلب في الصلاة علينا أن نتذكر أهميتها ومكانتها العظيمة من ديننا.
ومع أنه ورد عن الصحابي عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه كان يقول: لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه. لكن الصلاة تصح حتى لو حدث المؤمن فيها نفسه إنما ثوابها يكون أعظم بمقدار ما يوقف حديث نفسه ويكون حاضر القلب فيها.
يبقى الخشوع أمراً آخر مطلوباً في الصلاة ومتوقعاً من المؤمن الذي يصلي ويستشعر عظمة الخالق الذي يتوجه إليه بمناجاته عندما يصلي. وحتى نفهم معنى الخشوع علينا أن نتأمل هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة :
قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} طه108
وقال: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} القمر7
وقال:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} الحديد 16
وقال:{وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} البقرة45
وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فصلت 39
وقال:{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} الشورى45
وقال:{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الحشر21
وقال:{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} القلم43
وقال:{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} المعارج44
وقال:{أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} النازعات9
وقال:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} الغاشية2
وقال:{وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}الإسراء109
- {عن جابر بن عبد الله قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا، وفي يده عرجون ابن طاب. فرأى في قبلة المسجد نخامة فحكها بالعرجون. ثم أقبل علينا فقال "أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟" قال فخشعنا. ثم قال "أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟" قال فخشعنا. ثم قال "أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟" قلنا: لا أينا، يا رسول الله! قال "فإن أحدكم إذا قام يصلي، فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه. فلا يبصقن قبل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره، تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا" ثم طوى ثوبه بعضه على بعض فقال "أروني عبيرا" فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله، فجاء بخلوق في راحته، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله على رأس العرجون، ثم لطخ به على أثر النخامة. فقال جابر: فمن هناك جعلتم الخلوق في مساجدكم} رواه مسلم في صحيحه.
- {عن أنس رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وذقنه على رحله متخشعاً} رواه الحاكم في مستدركه وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
- عن أنس قال: {لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة استشرفه الناس فوضع رأسه على رحله تخشعاً} رواه أبو يعلى في مسنده.
- روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن رجل قال: رأى سعيد بن المسيب رجلاً وهو يعبث بلحيته في الصلاة فقال: {لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه} .
- {عن جبير عن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء، قال: فقال زياد بن لبيد الأنصاري يا رسول الله وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن فوالله لنقرأنه ولتقرئنه نساؤنا وأبناؤنا.. فقال: ثكلتك أمك يا زياد، إني كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذا التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟ قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت فقلت له ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء وأخبرته بالذي قال، قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلا خاشعاً} رواه الحاكم في مستدركه.
وجاء في رواية أخرى للحاكم {عن جبير بن نفير أنه قال: قال عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء يوماً فقال: هذا أوان يرفع العلم، فقال له رجل من الأنصار يقال له ابن لبيد: يا رسول الله كيف يرفع العلم وقد أثبت في الكتاب ووعته القلوب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة.. ثم ذكر ضلالة اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله. قال: فلقيت شداد بن أوس فحدثته بحديث عوف بن مالك فقال: صدق عوف ألا أخبرك بأول ذلك يرفع؟ قلت: بلى. قال: الخشوع حتى لا ترى خاشعاً}.
في الآيات الكريمة نجد القلوب تخشع والأبصار تخشع والأصوات تخشع والوجوه تخشع والجبال تخشع والأرض تخشع والمصلون يخشعون، ومعنى الخشوع أوضح ما يكون في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فصلت39
فالأرض تكون خاشعة حتى يسقيها الماء فيزول خشوعها عندما تهتز وتربو أي ترتفع لتكون رابية، ويكون الخشوع اجتماع السكون والانخفاض ويزول بالحركة والاهتزاز والعلو والارتفاع، ويكون الخشوع في الصلاة الهدوء والسكينة وعدم الإتيان بحركات ليست من الصلاة، ويرافق هذه السكينة انخفاض الرأس والبصر والجسم عموماً، ويكون نظر المصلي إلى موضع سجوده جزءاً من خشوعه وتأدبه في حضرة خالقه العظيم، وهكذا يكون الخشوع شيئاً يرى بالعين، وليس حضور القلب الذي لا يمكن لأحد أن يراه بل يحس به صاحبه وحده، وبذلك يتوضح لنا معنى الخشوع في الأحاديث السابقة، حيث خشع الصحابة عندما غضب الرسول صلى الله عليه وسلم لأن أحدهم تنخم في المسجد، فسألهم صلى الله عليه وسلم أيهم يحب أن يعرض الله عنه، فطأطئوا رؤوسهم وصمتوا لا يجرؤ أحد منهم على الكلام، وقد أخجلهم أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم نخامة أحدهم على أرض المسجد. وكذلك نفهم قول الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة أنه دخلها خافضاً رأسه متخشعاً تواضعاً لله الذي نصره حتى كاد رأسه يلامس رحله، وهكذا الخشوع في الصلاة يتحقق بالتأدب في حضرة الخالق تأدباً يقترب من التذلل والمسكنة وإن كان المؤمنون عباد مكرمون من خالقهم الذي كرم بني آدم ولم يذلهم، إلا العصاة المستكبرين منهم، الذين قال تعالى عنهم عندما يعرضون على النار : {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} الشورى45.
والصلاة التي تؤدى حق الأداء صلاة يجتمع فيها الخشوع وحضور القلب ما استطاع الإنسان، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. والمؤمن قد يعجز عن حضور قلبه في الصلاة لأسباب مرضية كالقلق النفسي والوسواس القهري، حيث لا يستطيع الإنسان التوقف عن حديث النفس المتركز حول الخوف والقلق قلقاً أكثر مما يلزم، ويكون انشغالاً للبال مزعجاً لصاحبه ويحرمه القدرة على التركيز والانتباه والشعور بالطمأنينة. أما عندما يتعالج مريض القلق من قلقه فإنه يستعيد قدرته عل إيقاف حديث نفسه في الصلاة واستحضار قلبه فيها. صحيح أن القلق يضعف القدرة على حضور القلب في الصلاة لكنه لا يؤثر أبداً على قدرة المؤمن على الخشوع فيها ليستحق أجر الخاشعين وتتنزل عليه رحمة رب العالمين. قال تعالى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ{45} الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ{46} { البقرة 45-46 } فالخشوع لرب العالمين في الصلاة وليد الإيمان بلقاء الله والعودة إليه والرغبة بثوابه والخوف من عقابه وليس الخشوع رياضة نفسية مثل حضور القلب بل هو تأدب المؤمن مع خالقه العظيم حين يكون حاضراً بين يديه يناجيه.
الفصل الثالث:
التسبيح
إنّ قدرة الإنسان على تجاوز المكان والزمان الراهنين، وعلى استباق الأحداث أو استرجاعها بأفكاره وخياله نعمة من الله، وقوة زوده الله بها، لكن التفكير بما وراء ما تدركه الحواس (الآن) و (هنا)، أي: ما سمّاه النبي صلى الله عليه وسلم (حديث النفس) يتم على حساب سكينة النفس وطمأنينتها في كثير من الأحيان، ويتم على حساب استمتاع النفس بالجمال المحيط بها في كل الأحيان.
ومع تعقد الحياة في هذا العصر وزيادة الضغوط فيها على النفس الإنسانية، زاد شعور الإنسان بالحاجة إلى العودة إلى حياة لا يحدّث فيها نفسه كثيراً، بل يعيش لحظته الراهنة في نطاق ما تدركه حواسه، دون أن يسرح به الفكر والخيال في ذكريات الماضي، أو هموم المستقبل.
ومع تأكيد الدراسات الحديثة على العلاقة القوية بين الضغوط النفسية والأمراض المختلفة، وعلى العلاقة القوية بين سكينة النفس وخلوها من الهموم وعافيتها من الأمراض النفسية والبدنية، ومع زيادة وعي الإنسان إلى انه أقلّ سعادة بكثير مما يُتوقع له، وهو يملك كل ما أنجزته الحضارة الحديثة من أسباب الراحة والرفاهية والتحرر من الشقاء المضني في سبيل لقمة العيش، مع هذا كله كان لابُدَ للإنسان من أن يبحث عن وسيلة يستعيد بها سكينة نفسه ولو لدقائق معدودات كل يوم.
وولى إنسان الحضارة الغربية وجهه شطر المشرق، لكنه ألقى ببصره إلى ما وراء الإسلام، إلى حيث البوذية والهندوسية، ومن هناك استورد (اليوغا) و(التأمل التجاوزي). وكلاهما يهدفان إلى أن يمضي الإنسان فترة من الزمن ولو دقائق معدودات (لا يفكر)، أي: (لا يحدّث نفسه)، لأنه لا يمكن للإنسان أن يتوقف عن التفكير، لكنه إن توقف عن حديث النفس فكّر بما أمامه دون أن يشعر أنه يفكر، إنه يفكر بشكل تلقائي مثلما ينظر إلى الأشياء، أو يصغي إلى الأصوات.. وتعلم من اليوغا أن يجلس بلا حراك مركّزاً بصره في نقطة ثابتة، مردداً كلمة إمّا أنها لا معنى لها، أو أنها كلمة سنسكريتية ذات معنى ديني في الهندوسية، أو قد لا تعني إلا (الكل) أو (واحد) وما شابه.وهذه الكلمات التي تستخدم أثناء جلسات اليوغا، ويتم تردادها باللسان أو بالقلب فقط تسمى ( مانترا Mantra ).
لكن المؤمن في غنى عن هذا كله. إنه لا يحتاج إلى أن يستعير (مانترا) أحد من العالمين.. إنه ينظر حوله فيرى بديع صنع الله، وآثار قدرته وعظمته، فينطلق لسانه وقلبه ليقول: (سبحان الله ).. إنه يجمع في كلمة (سبحان الله) المعاني الكثيرة الكثيرة، ولا يهرب إلى (مانترا) لا معنى لها حتى يريح ذهنه المكدود بحديث النفس المتعب المستمر.
إنه عندما يقول سبحان الله فإنه يقول: ما أعظم الله! وما أقدر الله! وما أحكم الله! وما أكرم الله! وما أقوى االله! وما أعلم الله! وما ألطف الله! وما.. وما.. تجتمع كلها في كلمة سبحان الله، كأنه فيلسوف يقول: (ما أكمل الله).. يقولها ويدرك بعقله الكبير ما يعنيه الكمال المطلق، وما يحتويه من كمالات متنوعة، إنه ينزّه الله عن أيّ عيب، أو نقص، ويبدي إعجابه البالغ بهذا الخالق صاحب الكمال المطلق.
إنه يسبّحه ويردد بقلبه ولسانه (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فيمتلىء قلبه بمشاعر الإعجاب والحمد والتنزيه لله سواء كان فيلسوفاً عبقرياً أو أمياً لم يفكّ حروف كلمة واحدة في حياته.
ويسحب المؤمن نفسه من شواغل الحياة لفترة من الزمان يسبّح فيها الله بقلبه ولسانه في آن واحد، ويذكره بعبارات متنوعة تعلمها من رسوله صلى الله عليه وسلم، فيزداد إيمانا وسكينة وحضور قلب وانتباه، ويتحرر من حديث النفس الذي يغيّبه عما تراه عيناه، وتسمعه أذناه، وتحسّه حواسه الأخرى من أوجه الجمال في هذا الكون البديع. إن للتسبيح مكانا هاما في الصلاة، إنه في الركوع وفي السجود. والتسبيح في الصلاة مع الخشوع، ومع حضور القلب يكون له أعظم الأثر في النفس المؤمنة، فسبحان الذي أمرنا بعبادات تعمّق الإيمان في نفوسنا، وترسخه، وتمزجه بها مزجاً؛ بحيث يصبح مكوّناً أصيلا من مكوناتها، فلا يكون فيه تكلّف، ولا إكراه للنفس، بل يتجاوب مع الفطرة السوية التي فطرت عليها.
الفصل الرابع:
(وجعلت قرة عيني في الصلاة)
في هذا العصر الذي تعقدت فيه الحياة، وزادت فيه الضغوط على النفس البشرية وفقد فيه الإنسان الكثير من الطمأنينة التي كانت توفرها له بساطة الحياة قديماً، وقلة متطلباتها، وقناعته التي كانت كنزه الذي لا يفنى.
في هذا العصر الذي قلّ فيه العمل اليدوي الذي يتطلب انهماك الفكر واليد والتركيز فيما يصنع الإنسان، وحلّت الآلة محله إلى حد كبير، وصار يمكن للإنسان أن يدير آلة بقليل من التركيز، وكثير من الملل والسأم.
في هذا العصر الذي تكدست فيه الملايين في مدن مليئة بالضجيج والحركة، وحرم فيه هؤلاء من هدوء الحقل والجبل والشُطآن.
في هذا العصر الذي ضعفت فيه الروابط الأسرية والاجتماعية، وشحن الإنسان فيه بالعداء للكون كي يتحمس لقهره، والسيطرة عليه، فازداد الإنسان عزلة حتى وهو يعيش بين الملايين، وازدادت عزلته وغربته بعد أن صار يتصور الكون والطبيعة عدوين يجب أن يقهرهما.
في هذا العصر ازداد العبء على عقل الإنسان وركبته الهموم، فصار يعيش في همومه أكثر مما يعيش في واقعه الآني. صار شارداً في حديث نفسٍ لا يكاد ينتهي، فهو دائماً يخطط للمستقبل، ذلك الذي صار كابوساً مخيفاً وصارت توقعات المصاعب فيه أكثر من توقعات النّعم والمسّرات.
في هذا العصر صارت لحظات الانتباه التام إلى اللحظة الراهنة والمكان القائم، الذي يكون فيه هذا الإنسان بلا انشغال للفكر بشيء آخر، صارت هذه اللحظات من الانتباه رفاهية وكمالية لا تتاح للكثيرين.
لقد نسي إنسان الحضارة الحديثة كيف يوقف حديث نفسه الدائم، ليفتح عينيه على ما حوله ومن حوله، وليصغي بأذنيه وقلبه لمن حوله وما حوله، وصار تعليم هذا الإنسان كيف يعود إلى انتباهه، وكيف يحضر قلبه إلى حيث هو، صار ذلك اختصاصا وتجارة.. فمن دروس في اليوغا، إلى دروس في التأمل التجاوزي، إلى دروس في الاسترخاء العضلي، إلى دروس في التنويم المغناطيسي الذاتي، إلى دروس في الإخبار الحيويّ الراجع Biofeedback من أجل التحكم بسرعة ضربات القلب، ومقدار توتر العضلات، بل والتحكم بموجات الدماغ الكهربية. كل ذلك من أجل دقائق قليلة أو كثيرة من السّكينة النفسية، والتوقف عن حديث النفس وما يحويه من هموم أو ذكريات.
لكن المؤمن الذي يصلي لله تعالى كل يوم خمس مرات منذ أن يبلغ السابعة من عمره، هذا المؤمن يقوم إلى صلاته ليصليها بإتقان وإحسان، وكأنه يرى الله أمامه ينظر إليه وهو يؤديها.
((... قال فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنما تراه، فإن لم تكن تره فإنّه يراك)) (صحيح مسلم). إنه يصلي وهو يستشعر حضور الله. قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنّه يناجي ربه، أو إن ربه بينه وبين القبلة)) (البخاري حديث رقم 397).
إنه دائما يُصلي وهو يحاول أن يكون حاضر القلب يعلم ما يفعل وما يقول، أي: منتبهاً وليس ساهياً شارداً في حديث النفس، فهو يعلم أن انتباهه وحضور قلبه لا بد منهما حتى يتحقق في صلاته الإتقان والإحسان، حتى أن عمار بن ياسر رضي الله عنه كان يقول: لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه.
وقد حثّ الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين على التركيز في صلاتهم والانتباه لما يقولون ويفعلون فيها، وعلى عدم السهو والاستغراق في حديث النفس أثناءها، فجعل لمن ينجح في أداء ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه جائزة عظيمة جداً، وهي أن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه.
روى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ذات مرة ثم قال: ((من توضأ مثل وضوئي هذا، ثم قام فصلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه بشيء غفر الله له ما تقدم من ذنبه)) (رواه النسائي في سننه في كتاب الطهارة).
إن حضور القلب في الصلاة، وإيقاف الفكر خلالها عن انشغاله المزعج بحديث النفس والتفكير بما مضى أو ما قد يأتي.. إنّ هذا الحضور للقلب، والسكينة التي يجلبها للنفس من أهم الأسباب التي جعلت الصلاة قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم وراحته: (أرحنا بها يا بلال..) وقرّة عين وراحة لكل المؤمنين من بعده.
الفصل الخامس:
تنهى عن الفحشاء والمنكر -1
إن الصلاة وتلاوة القرآن تولدان في النفس ناهياً عن الفحشاء والمنكر، ولكن كيف يتم ذلك؟ الآلية الأولى التي يمكن أن يتولّد بها هذا الناهي في النفس من الصلاة وتلاوة القرآن هو الحالة التي يسميها علماء النفس (التنافر المعرفي) cognitive dissonance. إذ يرى المؤمن الذي يصلي لله خاشعاً والذي خشع قلبه لذكر الله فيتلوه ويلين له، هذا المؤمن يكون مفهومه لذاته، وتصوره لنفسه أنه (إنسان مؤمن طائع لله). وهذه الفكرة الصحيحة عن نفسه تتعارض مع الفكرة والتصوّر الذي ينتج عن وقوعه في الفحشاء والمنكر، وهو أنه: (إنسان عاص لله متّبع لهواه).
وقد وجد علماء النفس أن اجتماع تصوُّرين ومفهومين متنافرين متعارضين لدى الإنسان عن ذاته يسبّب له انزعاجاً وضيقاً ويدفعه إلى التخلص من هذا التنافر بين ما يعرفه عن نفسه، وذلك إما بالامتناع عن سبب هذا التنافر وهو هنا الوقوع في الفحشاء والمنكر، وهذا ما ذكره الله عن المتّقين الذين إذا فعلوا فاحشة ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ولم يصرُوا على ما فعلوا وهم يعلمون، وإما أن يحلّ الإنسان التنافر بتغيير ما يؤمن به بخصوص السلوك المسبب للتنافر المعرفي لديه، وهذا مستحيل هنا إذ لا يمكن للمؤمن أن يرى في الفحشاء والمنكر إلا عصيانا لله وإتباعا للهوى.
أما إن استمر في الجمع بين الحالين المتنافرين فإنّه سيبقى يعاني من التوتر والانزعاج الذي يدفعه ويحثه على إزالة هذا التنافر، وبذلك يكون لديه في نفسه من الدوافع ما ينهاه عن الفحشاء والمنكر. أما الآلية النفسية الثانية التي يمكن للصلاة وتلاوة القرآن أن تشكلا بوساطتها ناهياً نفسياً للمؤمن عن الفحشاء والمنكر فهي آلية "الذكر واليقظة" حيث لا يمكن للمؤمن أن يقع في الفحشاء والمنكر دون إكراه إلا وهو في حالة من "الغفلة" أو ما يسميه علماء النفس "الإنكار denial" حيث يتصرف الإنسان وكأن الأمر الذي يعلم بوجوده لا وجود له، فالمؤمن يقع في الفحشاء والمنكر حين يمارس هذا الإنكار النفسي، والتغافل عما توعّد الله به من العقوبة على هذه الفحشاء أو ذلك المنكر، وهذا والله أعلم معنى ما جاء في الحديث الشريف من أنّ المؤمن لا يزني وهو مؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن..الخ.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن. ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن".
فهذا لا يعني أنّه ساعة ارتكابه للزنى أو السرقة كان كافراً مرتداً، إنّما كان لا يعيش حالة الإيمان المُتَيَقِّظ الواعي الذاكر، إنّه أبداً لم يغيّر عقيدته لحظة الزنى أو السرقة، إنما تغافل عنها، وأبعدها عن شعوره، تماما كما يفعل المصاب بالجلطة القلبية وهو يصر على الاستمرار في بذل الجهد الذي ينهاه عنه الأطباء لما فيه من خطورة على حياته.
إنه لا يريد أن يعيش بمشاعره ما يعرفه بعقله، من أنّ قلبه مريض، وأنه لم يبق ذلك القوي المعافى، وهكذا المؤمن عندما يستجيب لشهواته، يبقى عقله مدركاً لحقائق الإيمان كلها، ولخطورة ما يرتكبه، لكنه يزيح هذا الإدراك عن شعوره ووعيه، ينكره نفسياً، أو بالمصطلح الإسلامي: يتغافل عنه.
وهنا تأتي الصلاة خمس مرات كل يوم بوضوئها وقيامها وركوعها وسجودها، وتأتي تلاوة القرآن في الصلاة وخارجها لتجعل من الصعب على المؤمن أن يتغافل، أو ينكر نفسياً ما يعلمه من أنّ الفحشاء والمنكر يضعانه في خطر الوقوع في عذاب الله، وبذلك تكون الصلاة والقرآن مصدري نهي نفسيّ عن الفحشاء والمنكر. أمّا إن وقع هذا المؤمن التقيّ في المحظور فإنه سرعان ما يعود، فيذكر الله، ويستغفر لذنبه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{135} أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ{136}} (آل عمران:135-136).
الفصل السادس:
تنهى عن الفحشاء والمنكر -2
قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ{45}} (العنكبوت:45)
إن الصلاة من المؤمن الخاشع بما فيها من قراءة وقيام وركوع وسجود تجعل المؤمن يعيش لحظات من ذكر الله {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي{14}} (طه: 14). وتلاوة ما أوحى الله من ذكره، أي: القرآن الكريم تزيد من يقظة المؤمن، وتقلل من غفلته. وبالصلاة وتلاوة القرآن، وغير ذلك من طرق ذكر الله تتولد في نفس المؤمن دوافع نفسية معاكسة لميله البشري إلى الوقوع في الفاحشة والمنكر الذي يزيّنه له شياطين الإنس والجنّ. فالصلاة تنهى عن الفحشاء (أي: الزنى) والمنكر بأشكاله كافة، وكذلك ذكر الله (أي: القرآن) الذي بدأت الآية الكريمة بالأمر بتلاوته قبل الأمر بإقامة الصلاة، ينهى أيضا عن الفحشاء والمنكر، بل هو كما تقول الآية الكريمة (أكبر) أي: أكبر نهياً للمؤمن عن معصية الله.
وقبل البحث في الآلية النفسية التي يمكن أن يكون هذا النهي متولداً بها، يجب الانتباه إلى أن الله قال: (تنهى) ولم يقل: (تحول وتمنع)، إنّه النهي، ويبقى المؤمن المصلّي التالي لما أوحي من الكتاب والذكر، يبقى على خطر، إذ قد تكون الدواعي النفسية لديه والتزيينات التي يتعرض لها والتي تحثّه وتدعوه إلى الفحشاء والمنكر، قد تكون قوية فيستجيب لندائها، ويتغافل عن نهي الصلاة، وذكر الله له، فيقع في فحشاء أو منكر من المنكرات.
وقد تحدّث القرآن عن المتقين فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{135}} (آل عمران:135) فالمؤمن الذي يضعف أحياناً، فيقع في فاحشة، أو يظلم نفسه بارتكاب منكر من المنكرات، لا يعني ذلك أن صلاته لم تنفعه وأنّ تلاوته لذكر الله لم تؤثر فيه، إنّما هي الطبيعة البشرية حيث قد يقع الإنسان في كثير من الأحيان في حيرة وتردد بين اختيارات متعددة، ويكون لديه من الدوافع النفسية المتعارضة ما يدعوه لفعل أمر ما، وما ينهاه عن فعله، فالطبيب الذي يعلم حقّ العلم أن التدخين ضار بصحته ولكنه مدمن على التدخين لا يتمتع بسيجارته إلا إن نسي أو تناسى ما يعرف عن أضرارها، أما إن بقي ذاكراً لتلك الأضرار فإنها ستنهاه عن التدخين، أي: ستأمره ألاّ يدخّن، لكنها بالطبع لن تمنعه، فقد تشتد شهوته، ويقرر الاستجابة لها، والتغافل عن صوت النهي والتحذير، وهذا أبدا لا يعني أن معرفة الناس لأضرار التدخين لا تفيد، لأن الإنسان الذي يعتقد أن التدخين لا يضر سيدخن أكثر، إذ ستبقى لديه الدواعي النفسية لأن يدخّن، وستغيب النواهي النفسية عن أن يدخّن، ولن يتعرّض لأي نوع من الصراع النفسي قبل إقدامه على التدخين. وكذلك المؤمن تنفعه الصلاة وتلاوة القرآن إذ تولّدان في نفسه (ناهياً نفسيّا) يعينه في وجه أيً (داع نفسي) إلى الفحشاء والمنكر، وحتى مع وجود الناهي تبقى له الحرية في أن يستجيب إلى الناهي، فلا يقع في الفحشاء والمنكر، أو أن يستجيب إلى الدّاعي فيقع فيهما.
إنّ الصلاة والقرآن عاملان معينان للمؤمن كي يبقى في حالة من التقوى، لكنهما لا يسلبانه الإرادة، ولا يلغيان كلّ النوازع البشرية لديه من شهوة، أو غير ذلك.
الفصل السابع:
تنهى عن الفحشاء والمنكر -3
تنهى الصلاة، والقرآن الكريم، وذكر الله عموما عن الفحشاء والمنكر عن طريق السكينة التي تبثها إقامة الصلاة، وتلاوة القرآن في النفس المؤمنة. فالقلق النفسي – وبخاصة الخوف من الفقر والحرمان- قد يولّد في النفس حالة من السخط والإحباط، تبحث عن هدف لها، تنفّس من خلاله عن غيظها وسخطها. والمؤمن لا ترضى نفسه أن يتوجّه سخطه إلى الله تعالى، وهو الرزاق فتزيح نفسه هذا السخط، وما يرافقه من عداء باتجاه البشر الآخرين. ومشاعر العداء تدفع إلى الفاحشة سواء كانت بين رجل وامرأة، أو كانت شاذة بين رجل ورجل، أو بين امرأة وامرأة. وكون العداوة دافعاً للجنس أحياناً، وبالتالي كون الممارسة الجنسية الطبيعية ( المحرمة ) أو الشاذة فعلاً عدوانياً هو من المكتشفات الحديثة في علم النفس، لكن القرآن الكريم أشار اليها في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ{5} إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ{6} فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ{7}} (المؤمنون:5-7). وكذلك في قول لوط- عليه السلام – لقومه: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ{165} وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ{166}} ( الشعراء :165-166). ولعل هذا يفسر لنا ورود تخويف الشيطان لنا من الفقر وبثّه للقلق في نفوسنا قبل أمره لنا بالفحشاء، ثم ترافق المغفرة من الله مع الفضل والرزق في قوله تعالى: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{268}} (البقرة:268).
فالشيطان يمهد لوساوسه الطريق بإثارة القلق والخوف في نفس المؤمن؛ لذا كان التوكل على الله حصناً يحمي المؤمن من الشيطان، وتأمل قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ{98} إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ{99} إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ{100}} (النحل: 98-100) .
وعلى ما يبدو فقد قام الشيطان بإثارة القلق والخوف من المستقبل لدى سيدنا آدم، ليجعله قابلاً لتأثيره وغوايته، فهو عندما زيّن له الأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها قال له ولزوجه: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ{20}} (الاعراف: 20).{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى{120}} (طه : 120) .
وطلب المتعة والإفراط فيها والشهوة في الامتلاك المادي أو الرمزي (كما في المعاشرة الجنسية) قد يكون نتيجة لمشاعر الإحباط والحرمان، فيكون هذا الامتلاك بمثابة تعويض عما يتصوّر الإنسان أنه قد حرم منه، وبهذه الطريقة يمكن للفقر والحرمان والخشية منهما في المستقبل أن تولّد داعياً نفسياً ينضاف إلى العداوة والعدوان الناتجين من مشاعر السخط وعدم الرضا، بسبب الحرمان الواقع أو المتوقع، فيعمل الشيطان من خلال هذه المشاعر النفسية التي تفقد النفس سكينتها، ويمارس تزيينه للإنسان ليوقعه في الفاحشة، ومعصية الله.
والصلاة وتلاوة القرآن تعيدان للنفس المؤمنة اطمئنانها وسكينتها، وتوكلها على الله، فالصلاة حمد وثناء وإعلان للرضا عن الله تعالى يعارض أية مشاعر إحباط وسخط.
كما أن القرآن الذي يتلوه المؤمن في الصلاة وخارجها يعالج كل أنواع القلق الإنساني، فتطمئن نفسه وتسكن: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ{28}} (الرعد: 28) .
والصلاة بما فيها من أفعال وأقوال تعطي المؤمن الشعور بالإنجاز وأنه قد فعل شيئا ذا معنى، وذا بقاء، وهي بذلك تعالج واحداً من أهم أسباب القلق الإنساني، وهو: الإحساس باللامعنى، وبخلوّ حياته من الإنجاز. وكلما أوصدنا في أنفسنا باباً للقلق أوصدنا باباً في وجه الشيطان الذي ليس له سلطان على النفس المؤمنة المتوكلة على الله.
ومن جهة أخرى فإن الصلاة، وتلاوة القرآن، الأولى مناجاة لله تعالى، والثانية قراءة، واستماع لكلماته وخطابه، ورسالته لنا.. إنه حوار مع خالق الكون، مع الودود، القوي، الحاضر معنا يسمع ويرى، مع الذي يبادلنا حبّنا له بحب أكبر منه.. مع الذي يراعي مشاعرنا ويرحمنا رغم ضآلتنا وعظمته.
إنه مع هذا الحوار المتجدد كل يوم، وفي معية هذا الرب الرحيم، لا يبقى لدى الإنسان إحساس بالعزلة والوحشة في هذا الوجود، ويوصد باب كبير من أبواب القلق النفسي الذي تنبّه إليه الوجوديون، فأصرّ الملحد منهم على أنه لا حل له إلا بالحب بين البشر، أما المؤمن منهم فإنه رأى في الإيمان والحب حلّين ينعم بهما المؤمن، فلا يدخل القلق إلى نفسه من هذا الباب أبداً. وبهذا يكون في الصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله عموماً حماية للمؤمن من تزيينات الشيطان، ونهياً له عن الفحشاء والمنكر، ومصدراً للسعادة في الدنيا قبل الآخرة.