أحسن الحديث
د.عثمان قدري مكانسي
(الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) الآية/ 23/ من سورة الزمر.
قرأت هذه الآية الكريمة اليوم ، فحملتني بأجنحة الزمان إلى عام ثمانية وستين وتسع مئة وألف ، في كلية اللغات بحلب – هكذا كان اسمها إذ ذاك قبل أن يُطلق عليها بعد سنوات كلية الاداب – وكنا في امتحان صيف تلك السنة نُختبر في الإسلاميات التي كان يدرِّسُناها الدكتور نور الدين العتر حفظه الله ، وكان يتابعنا في الامتحان مع أستاذنا نورِ الدين الدكتورُ محمد سعيد رمضان البوطي .
كان الدكتور البوطي قد أصدر قبل سنوات من ذلك التاريخ كتاباً يحوي دراسات أدبية لبعض سور من القرآن الكريم أسماه ( أحسن الحديث) وكنت أسمع الدكتور العتر ينبهه أن القرآن هو ( أحسن الحديث) هكذا وصفه الله تعالى - كما في الآية السابقة- . ولعل البوطي يغير اسم كتابه ،وأذكر أن الشيخ البوطي وعده بتغيير الاسم في طبعته التالية ، وهكذا كان ، لكنني لا أذكر الاسم الجديد.
وأفتح بعض كتب التفسير – وأخص تفسير القرطبي من بينها بالاهتمام لقرب أسلوبه مما أرغب وأرتاح ،فأرى مدح من الله عز وجل لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم إذ يقول الله تعالى " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني " فأجد معاني جليلة كثيرة ، منها
1- قول مجاهد يذكر أنّ القرآن كله متشابه مثاني
2- ويقول قتادة : الآية تشبه الآية والحرف يشبه الحرف .
3- ويقول الضحاك : "مثاني" ترديد القول ليفهموا عن ربهم تبارك وتعالى .
4- ويقول الحسن البصري :تكون السورة فيها آية وفي السورة الأخرى آية تشبهها
5- ويقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : "مثاني" مُرَدد . رُدِّدَ موسى في القرآن وصالحٌ وهودٌ والأنبياء عليهم الصلاة والسلام في أمكنة كثيرة
6- ويقول سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما " مثاني " القرآن يشبه بعضُه بعضاً ويُرَدُّ بعضه على بعض
7- وقال بعض العلماء ويروى عن سفيان بن عيينة معنى قوله تعالى " متشابها مثاني " أن سياقات القرآن تارة تكون في معنى واحد فهذان من المتشابه وتارة تكون بذكر الشيء وضده كذكر المؤمنين ثم الكافرين وكصفة الجنة ثم صفة النار وما أشبه هذا . وهذا من المثاني كقوله تعالى " إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم " وكقوله عز وجل " كلا إن كتاب الفجار لفي سجين - إلى أن قال - كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين " " هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب - إلى أن قال - هذا وإن للطاغين لشر مآب "
8- ونحو هذا من السياقات فهذا كله من المثاني أي في معنيين اثنين .
ويقول القرطبي رحمه الله تعالى :
وأما إذا كان السياق كله في معنى واحد يشبه بعضُه بعضا فهو المتشابه. وليس هذا من المتشابه المذكور في قوله تعالى " منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " ذاك معنى آخر.
أما قوله تعالى " تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " فهذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار المهيمن العزيز الغفار إذ يفهمون منه من الوعد والوعيد والتخويف والتهديد فتقشعر جلودهم من الخشية والخوف " ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه وهذه صفة رائعة للمؤمنين الذين يخالفون غيرهم من الفجار من وجوه :
1- " أحدها " أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات .
2- " الثاني " أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا بأدب وخشية ورجاء ومحبة وفهم وعلم كما قال تبارك وتعالى " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم " وقال تعالى " والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا " فلم يتشاغلوا عنها لاهين بل مصغين إليها فاهمين بصيرين بمعانيها ، فهم يعملون بها ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم.
3- " الثالث " أنهم يلزمون الأدب عند سماعها كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله تعالى حين يسمعون تلاوة رسول الله فتقشعر جلودهم ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله، ولم يكونوا يتصارخون ولا يتكلفون ما ليس فيهم بل عندهم ، إنهم يسمعون القرآن بأدب وخشية وسكون وثبات ما لا يلحقهم أحد في ذلك ، ففازوا بمدح الرب الأعلى في الدنيا والآخرة .
تلا قتادة رحمه الله " تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " فقال هذا نعت أولياء الله نعتهم الله عز وجل بأنهم تقشعر جلودهم وتبكي أعينهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما هذا في أهل البدع ،وهذا من الشيطان
وقال السدي " ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " وإلى وعد الله وقوله " ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده " وهذه صفة مَنْ هداه الله . أمّا من كان على خلاف ذلك فهو ممن أضله الله " ومن يضلل الله فما له من هاد " .
قلت: هذا والله ما نراه في جهل العامّة الذين يسمعون القارئ يتلوّن في المقامات ويتنغّم بالألحان ، فتراهم يصيحون باصوات منكرة ، ضاع منها الأدب وغاض خوف الله من قلوبهم ليسكن فيها الأداء الجميل والصوت الرخيم ، فإذا سمعوا " الحاقة ما الحاقة" وهذا تنبيه وتخويف من يوم القيامة صاحوا متلذذين مستبشرين ، وكأنّ (الحاقّة) بشرى تُعقد عليها الامال !! وتُنال بها الرغائب !
وشتان شتان بين من يسمع ويفهم فيعي ويعمل وبين مَن جَهل فأخطأ ولم يدرِ، فضاع وضيّع.