وليعفوا وليصفحوا
أ.د. عبد الرحمن البر
عميد كلية أصول الدين بالمنصورة
وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين
وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
«أشهد الله أني خلعت عباءة الخصومة بيني وبين أي أحد، وألغيت كل قضية قبل أن تبدأ، حتى أبدأ بنفسى لأني أحب أن يعفو الله عني وأن يغفر الله لنا، وأن ندخل في محل نظره سبحانه وتعالى».
بهذه الجملة الموفقة قدم فضيلة مفتي الجمهورية الشيخ الدكتور علي جمعة صورة وضيئة لما ينبغي أن يكون عليه العالم المسلم الذي يقدم من نفسه القدوة لسائر الناس، والعجيب أن وسائل الإعلام التي احتفت بالخصومة وسعت للوقيعة، لم تحتف بحديث الشيخ في إغلاق الخصومة بذات القدر، مع أن قيمة العفو والتصالح من القيم العظيمة التي نحتاجها اليوم لبناء مجتمع ناهض رائد بإذن الله، فالكريمُ يُحِبُّ أن تُقَالَ عثرتُه، ولذلك فهو يُقيل عثراتِ الناس، مستجيبا لقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان: «مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
إن مما يصفي الود بين الناس، ويصلح ما فسد من أواصر وصلات: خلق العفو، الذي لا يعد تذللاً من الذي عفا، ولا انتصاراً للمعفو عنه، ولكن العفو عز منحه الله لمن عفا، وفيما رواه مسلم: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ».
وجعل الله العفو عن الناس من أسباب استحقاق الجنة فقال: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾.
وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره أن الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ كان يَقُولُ: «إِذَا أَتَاكَ رَجُلٌ يَشْكُو إِلَيْكَ رَجُلًا، فَقُلْ: يَا أَخِي، اعْفُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْعَفْوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، إِنْ كُنْتَ تُحْسِنُ أَنْ تَنْتَصِرَ، وَإِلا فَارْجِعْ إِلَى بَابِ الْعَفْوِ، فَإِنَّهُ بَابٌ وَاسِعٌ، فَإِنَّهُ مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَصَاحِبُ الْعَفْوِ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهِ بِاللَّيْلِ، وَصَاحِبُ الِانْتِصَارِ يُقَلِّبُ الْأُمُورَ»
ثم روى الحديث الشريف: «إِذَا وَقَفَ الْعِبَادُ لِلْحِسَابِ يُنَادِي مُنَادٍ: لِيَقُمْ مَنْ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ، ثُمَّ نَادَى الثَّانِيةَ: لِيَقُمْ مَنْ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ، قَالُوا: وَمَنْ ذَا الَّذِي أَجْرُهُ عَلَى اللهِ؟ قَالَ: الْعَافُونَ عَنِ النَّاسِ، فَقَامَ كَذَا وَكَذَا أَلْفًا، فَدَخَلُوا الْجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ».
وأخرج ابن قدامة في كتاب المتحابين في الله عَن عَليّ بن الْحُسَيْن قَالَ: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نَاد مُنَاد: ليقمْ أهل الْفضل، فَيقوم نَاس من النَّاس فَيُقَال: انْطَلقُوا إِلَى الْجنَّة، فَتَلقاهُمْ الْمَلَائِكَة فَيَقُولُونَ: إِلَى أَيْن؟ فَيَقُولُونَ: إِلَى الْجنَّة، قَالُوا: قبل الْحساب؟ قَالُوا: نعم، قَالُوا: من أَنْتُم؟ قَالُوا: أهل الْفضل، قَالُوا: وَمَا كَانَ فَضلكُمْ؟ قَالُوا: كَانَ إِذا جُهل علينا حلمنا، وَإِذا ظُلِمنَا صَبرنَا، وَإِذا أُسِيء إلينا غفرنا، قَالُوا: أدخلُوا الْجنَّة فَنعم أجر العاملين.
وأخرج أبو نعيم وغيره عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، الذي تعرض لألوان من البلاء والأذى، بسبب آرائه في بعض مسائل الإيمان، وأُوذِي وعُذِّب وضُرِب وحُبِس، فلما فرَّج الله كُرْبَته جاءه ابنه صالح مرة وقال له: «بلغني أن رجلا جاء إلى فضل الأنماطي (أحد الذين عُذِّبوا مع الإمام أحمد) فقال له: اجعلنِي فِي حِلٍّ؛ إذْ لَمْ أقُمْ بِنُصرتِك. فَقال: لاَ أَجعلُ أحداً فِي حِلٍّ. قال صالح: فَتَبَسَّمَ أَبِي، وَسكتَ، وَسَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: لَقَدْ جَعَلتُ المَيِّتَ (يعني الخليفة المعتصم الذي ضربه وسجنه وآذاه) فِي حِلٍّ مِنْ ضَربِه إِيَّايَ. ثُمَّ قَالَ: مَرَرْتُ بِهَذِه الآيَةِ: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾ فَنَظَرتُ فِي تَفْسِيْرهَا، فَإذَا هُوَ مَا أَخْبَرَنَا هَاشِمُ بنُ القَاسِمِ، أَخْبَرَنَا المُبَارَكُ بنُ فَضَالَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ الحَسَنَ يَقُوْلُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ، جَثتِ الأُمَمُ كُلُّهَا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ العَالِمِيْنَ، ثُمَّ نُودِيَ: أَنْ لاَ يقومَ إِلاَّ مَنْ أَجرُه عَلَى اللهِ، فَلاَ يَقومُ إِلاَّ مَنْ عَفَا فِي الدُّنْيَا. قَالَ: فَجَعَلتُ المَيِّتَ فِي حِلٍّ». ثُمَّ قَالَ الإمام كلمة عجيبة تدل على نفسية مؤمنة قوية: «وَمَا عَلَى رَجُلٍ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ اللهُ بِسَبِبِهِ أَحَداً».
صحيح أن النفس تحب أن تنتصر وتشتفي وتأخذ حقها، والله تعالى لم يمنعنا من أخذ الحقوق، فقال: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ لكنه تبارك وتعالى هدانا لما هو أرشد وأقوم وأحسن وأكمل فقال ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾ وبين أن هذا لا يفعله إلا الكرام، لأن ترك شهوة النفس، وشهوة الانتصار والرغبة في إذلال الخصم، تحتاج إلى نفس قوية جدا، فقال تعالى: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾. وفيما أخرجه ابن ماجه بسند صحيح: «مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ».
وأمامنا أمثلة في غاية الوضوح:
يوسف عليه السلام: فعل به إخوته ما لا يتصور عاقل من الناس أن يفعله إخوة بأخيهم، ومع ذلك حينما مكنه الله جل وعلا وتحقق من ذل إخوانه الذين أساءوا له ﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.
سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه: كان يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ، وكان مِسْطَح ممن ردد شائعة الإفك عن عائشة مع المرددين، فقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه (فيما أخرجه البخاري): وَاللهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ. فَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى، وَاللهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي. فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِى كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللهِ لاَ أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا.
هذا هو الإسلام، وهذه هي العلاقات الإنسانية التي يرسيها الإسلام ليسعد بها الناس وليسعد بها الدنيا، وهو ما يجب أن يتعاون المخلصون من أبناء هذه الأمة على تحقيقه في الواقع من خلال التقريب بين المتباعدين والإصلاح بين المتخاصمين، وإطفاء الفتن التي أمر الله تبارك وتعالى بإطفائها، حتى أباح ما قد يُعَد كذبا من أجل تحقيق هذا الإصلاح، ففيما رواه البخاري: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِى يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا».
وقد كان السلف يقدرون قيمة الإصلاح بين الناس، ومن ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره عن عَبْدِ اللهِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ: أَيْنَ كُنْتَ؟ قَالَ: «كَانَ بَيْنَ قَوْمِي شَيْءٌ فَأَصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ» قَالَ: «أَصْبَحْتَ لَكَ مِثْلُ أَجْرِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾.
إن ما فعله فضيلة المفتي درس عظيم، يؤكد أن التسامح والتغافر يجب أن يكون عنوان العلاقة فيما بين أهل العلم، ثم هو درس في ضبط النفس والانفعال، وحسن التصرف وطيب الكلام، ودرس في السمو النفسي الذي يدفع النفس الكريمة للصفح والغفران. فهل نطمع أن يسود هذا الخلق الكريم في مصر الجديدة التي نريد بناءها على قيم الخير والفضيلة؟.