المؤمنون بين اليأس والأمل
المؤمنون بين اليأس والأمل
عبد العزيز كحيل
اليأس حالة نفسية تعتري الفرد والجماعة تحت مطارق الفتنة والمحنة وتسلّط الأعداء فتقطع الأمل وتفسح المجال للقنوط ، والإنسان بطبعه عرضة لهذه الحالة وهذا الشعور ،قال تعالى : " لا يسئم الإنسان من دعاء الخير وإذا مسّه الشرّ فيؤوس قنوط " – سورة فصّلت 49 ، لكن الذي يميّز المؤمن - سواء كان فردا أو جماعة أو أمّة – هو استعصاؤه على اليأس ولو دبّت إليه أسبابه، فهو لا ينهار ولا يستسلم رغم الجراحات النفسية وسطوة التحدّي الماثل لأنّه لا يتعامل – في النهاية – مع الأسباب وإنما مع خالقها سبحانه وتعالى الذي يقول :
- فإنّ مع العسر يسرا إن ّمع العسر يسرا – سورة الانشراح 5-6
- ... ولا تيأسوا من روح الله فإنّه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون – سورة يونس 87
- ومن يقنط من رحمة ربّه إلا الضّالون – سورة الحجر 65
هذه الآيات الكريمة معالم واضحة تيسّر للمسلمين مجابهة حالات اليأس بالثبات أمام الابتلاء والركون إلى رحمة الله تعالى التي تحفّهم من كلّ جانب لكنّهم لا يبصرونها في حينها لقصورهم البشري ، لذلك لم يجعل القرآن الكريم اليسر يعقب العسر – كما يظنّ أكثر الناس - وإنما هو معه لا يحجبه عن المبتلَى سوى حجاب المعاصرة ، ومهما كانت وطأة المحنة ، ومهما بلغت مداها في النفس البشرية المحدودة القدرة فإنه لا يزيد عن زلزلة المؤمنين والتوغّل في نفوسهم لتبرز عبوديّتهم للعيان ويعلموا أنّ ذواتهم ليست بشيء بغير مدد الربوبية .
ولنا في كتاب الله تعالى شواهد هي دروس حيّة وعظات واقعية مستوحاة من تجارب إيمانية محرقة خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ، وقبلهم أنبياءٌ ورسل ، نستفيد منها أنّ الفرج وشيك بعد زلزلة النفوس وزيغ الأبصار والشعور بضيق الأرض :
1.غزوة الأحزاب : صوّر القرآن الكريم حال المسلمين في تلك الغزوة تصويرا بديعا يشرّح بواطنَهم وهم محاصرون في المدينة المنورة تحيط بهم جيوش الكفار المجيّشة وينتابهم الخوف والجوع والتعب : '' إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا ، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا '' – سورة الأحزاب 10 – 11
كان الصحابة بشرا لهم إحساس وشعور مثل كلّ الناس . أحاطت بهم المحنة فأثّرت فيهم أيّما تأثير وحرّكت قلوبهم وزلزلتهم نفسيا حتى كاد اليأس يسيطر عليهم ، لكنهم ثبتوا وقاوموا عوامل القنوط والهزيمة النفسية التي تلازمه فجاءهم النصر من حيث لم يحتسبوا : '' وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا '' - سورة الأحزاب 25
ونلاحظ أن القرآن الكريم لم يقصّ بطولات المسلمين وحدها بل صوّر حالتهم النفسية بكل وضوح ودقة حتى لا نجعل من سيرة الصحابة '' ميثولوجيا '' مثالية ليس لها رصيد من الواقع فلا يمكن التأسّي بها ، بل هي دليل عملي رفيع يجمع بين الربانية وإشراقاتها والإنسانية وضعفها ليحدث التوازن المطلوب.
2.غزوة حنين : لم تكن مشكلة المسلمين في حنين في قلّة عددهم أمام الأعداء ولكن في كثرتهم – وقد كانت الغزوة بعد فتح مكة وشهدها غير قليل من الطلقاء الذين لم ينالوا حظًا وافرًا من التربية الإيمانية – وعندما وقعوا في كمين الكفار لم يثبت منهم إلا قلّة أمّا الأغلبية الساحقة فقد تهاوت نفسيا ولاذت بالفرار من هول الصدمة ، قال تعالى : ''... ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تُغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم ولّيتم مدبرين '' – سورة التوبة 25
وتشير عبارة '' وضاقت عليكم الأرض بما رحبت '' إلى امتلاء القلوب بيأس – ولو كان عابرا – واضطراب نفسي شديد لم يُبق في الأفق مجالا للأمل ولا إمكانية لاستعادة المبادرة وتحقيق النصر ، لكن الله تعالى أكرم النبي صلى الله عليه وسلم والفئة القليلة الصلبة التي ثبتت معه بنصر من عنده شمل حتى أولئك الذين انهزموا أمام المحنة الشديدة : '' ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذّب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين'' – سورة التوبة 26
تنزّلت السكينة فطبّبت القلوب وثبّتت النفوس وأعادت إليها الأمل وطاردت دواعي القنوط فاستجمع المؤمنون قواهم ودخلوا المعركة من جديد بثبات وعزيمة وثقة في الله تعالى وفي نفوسهم فكافأهم الله بالنصر والتوبة عما بدر منهم : '' ...ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم '' - سورة التوبة 27
تكرّر هنا ما لاحظناه على غزوة الأحزاب من تناول القرآن الكريم لحال المؤمنين بواقعية صادقة ليس فيها اختلاق لبطولات خيالية ، إنما هو وصف للنفوس البشرية حين يخالجها اليأس ثم ينقذها الله تعالى منه برحمته الواسعة فيعود إليها الأمل وتكون العاقبة نصرا .
3. رسل سابقون : ليس النبي صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل بل هو حلقة ختامية مباركة لموكب الأنبياء والرسل الأكارم نالتهم جميعا سنة الله تعالى في الابتلاء قبل التمكين ، يقول الله تعالى : '' أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله '' - سورة البقرة 214
هكذا ... متى نصر الله ؟ إنه سؤال يفصح عن مدى المحنة التي ألمّت بهم ، عن حجمها وظلّها ووقعها ... سؤال '' مكروب '' صادر من مؤمنين تظافرت عليهم الحرب وضيق العيش، لا يدلّ على شكّهم وارتيابهم ولكن على ضعفهم الفطريّ أمام المحنة المضاعفة، وكأنّما نلمس فيه رشح اليأس في لحظات الضعف، وسرعان ما تأتي الإجابة الحاسمة لتقطع دابر القنوط وتفتح آفاق الأمل والاستبشار: "ألا إنّ نصر الله قريب" - سورة البقرة 214
ألم يكونوا يعلمون أنّ نصر الله قريب؟ بلى، ولكن شتّان بين المعرفة الذهنيّة والاختبار العمليّ حين يكون صعباً قاسيّاً مؤلماً وفق سنّة الله في الاجتباء والتمحيص ليستحقّ المؤمنون التكريم الربانيّ عن جدارة .
4. قاعدة ربانية : في ختام سورة يوسف نقرأ هذه الآية الكريمة التي تُبرز سنّة إلهية ثابتة في الرسالات والنبوات : '' حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء ولا يردّ بأسنا عن القوم المجرمين '' – سورة يوسف 110
إنها قاعدة مقعّدة وأصل مؤّصل وسنّة سارية منذ كلّف الله تعالى عباده وأرسل رسلا، تفيد أن النصر بعد الصبر والثبات على الحق وتَحمّل أعباء الطريق الطويل الشاق المحفوف بالمخاطر والمكاره ، تكون العاقبة فيه لمن تحصّن بالإيمان واستصحب الأمل في مواجهة التحديات وطارد عوامل اليأس بيقين المؤمن وإيمان الموقن ، وهذه القاعدة لا تنفي ضعف الإنسان وإحساسه باليأس حين يُسدّ أمامه الأفق ولا استبطاءَه للنصر الذي كان يحسبه وشيكا ، قال تعالى : '' ويُنزّل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته '' سورة الشورى 28
وتمضي هذه السنة فينا في العصر الحاضر ، وقد تعدّدت التحديات وتنوّعت العوائق وادلهمّت على الأمة الخطوب ، وتكاثر أعداؤها فما تركوا مجالا إلا ناصبوها فيه العداء وضيّقوا عليها الخناق سياسيا وثقافيا واقتصاديا وعسكريا ، وتفنّنوا في خلق بؤر التوتّر النفسي بين أبنائها بوصمهم التعصب والإرهاب ونحوهما من النعوت السلبية المنفّرة ، وأدّى هذا إلى احتضان اليأس لطوائف وأجيال من المسلمين ، منهم من رمى به إلى ردود أفعال طائشة زادت الطين بلّة ، ومنهم من لم يحتمل التحديات فاستسلم للدعاية المغرضة ويئس من الحلّ الإسلامي وانضمّ إلى الخصوم ، لكن من وفقهم الله تعالى لاذوا بحبل الله المتين فتحمّلوا الأذى ودفعوا اليأس بالأمل وعضّوا بالنواجد على دوافع الأمل ، ويوشك أن تسري عليهم سنة الله في النصر والتمكين لأنّهم منسجمون مها ،يألمَون ويرجون من الله ما لا يرجو خصومهم.
وما ذلك بعزيز ، فهم متسلّحون بالصبر على المحن واليقين في الفرج ، قال تعالى : '' وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون '' – سورة السجدة 24
والدعاة إلى الله أكثر الناس عرضة لعواصف اليأس غير أن الله يثبّتهم ،فهم يواجهون -بالإضافة إلى المحن الخارجية –ما يرونه بين أهليهم من غربة الدين وتبرّج المعاصي واستفحال الأخلاق السيّئة إلى جانب الاستبداد السياسي والفساد المستشري إداريا وماليا ،وهم يحاولون إصلاح كلّ هذا والتحرّك خلاله على أكثر من جبهة ملتهبة لإعلاء كلمة الله وخدمة دينه وعباده ،فهم أولى من غيرهم بالتسلّح بالأمل والتفاؤل لقطع دابر اليأس والقنوط والقيام بأعباء الدعوة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.