هل لكَ في رِحْلةٍ
المأمون الهلالي
[email protected]
ما على الأرضِ مَكانٌ يُغادِرُهُ المسلِمُ ولو نفِدَ مالُهُ وكلَّ جسْمُه فيه ثمَّ يَتوقُ فؤادُهُ للرُّجوعِ إليهِ كمَكةَ المُكرمةِ والمَدينةِ المنورةِ ، فالسَّفرُ إليهما باهِظُ الثمَنِ ، والحَرُّ حَولَ مَسْجِدَيهما شديدٌ أحيانًا ، وأينما تُوَلِّ فهُنالِكَ زِحامٌ مُزعِجٌ ، ويَنشأُ عن ذَينِكَ عطشٌ وتعَبٌ ناهِكانِ،،،.
على أنَّ الوافِدَ عليهما -مُعتمِرًا أو حاجًّا- يَنسَى مَشَقّتَه مِنهما مهما تكن ، بل يُنفِقُ جُلَّ مالِهِ كيما يَأتِيَهما الحِنيةَ بعدَ الحِينةِ فيَثلجَ صَدْرُه بجِوارِ المَسجدِ الحرامِ ومَسجدِ الرسولِ الأكرمِ (ص) ، يُدهِشُهُ البُنيانُ وزِينةُ السَّقفِ وجودةُ البُسُطِ والجُدرانُ ، وحيثما يَمْشِ أو يقعُدْ يَرَ أوعيةَ زَمْزَمَ مُعَلَّقًا عليها أقداحٌ بيضٌ جديدةٌ يُشْرَبُ بها مرَّةً واحدةً فتُرْمَى ،،، ونِعْمَ عَمَلاً أنْ يُصَلِّيَ فرْضًا أو نفلاً فيَقرأَ
القرآنَ الكريمَ ثمَّ يَتضَرَّعَ إلى بارِئهِ ثمَّ يَرتوِيَ بماءِ زَمْزَمَ فيَنهَضَ إلى تجْوالِهِ في النواحِي والعَرَصاتِ ،،، وما كان أبْهَى مَنظرَ امرأةٍ مُؤمِنةٍ رأيتُها ذاتَ عُمْرَةٍ في الحَرَمِ المَكِيِّ جالِسةً تتنظَّرُ الكعبةَ ، وعيناها ترْنوانِ إليها وتذرِفانِ دَمْعَ الوَجْدِ والخُشُوعِ .
ولعَمْرُ اللهِ إنْ هي إلاّ دَعْوَةُ أبي الأنبياءِ " الخَليلُ " الذي قال ربُّنا على لِسانِهِ في سورةِ إبراهيمَ في الآيةِ السابعةِ والثلاثينَ {ربَّنا إنِّي أسْكنتُ مِن ذرِّيتِي بوادٍ غيرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ ، ربَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فاجْعَلْ أفئدةً مِن الناسِ تهْوِي إليهم ...}،،، قال الشريفُ الرضي : "وهذه مِن مَحاسِنِ الاستعارةِ ، وحقيقةُ الهُوِيِّ : النزولُ من عُلو إلى انخفاضٍ
كالهُبوطِ ،،، والمرادُ تُسْرِعُ اليهم- أي الأفئدة- شوقًا وتطِيرُ إليهم حُبًّا". (صفوة التفاسير للصابوني).
الكذِبُ رذيلةٌ ، وتشتدُّ فيمَن كان قائدًا للعَمَلِ الصالحِ ، ومنهم أصحابُ حَمَلاتِ الحجِّ والعُمرةِ ، هاكـُمْ حِكايةً عنهم حكاها منذ أسابيعَ قريبٌ لي ، فقال : وَعَدَنا عَرِيفُ حَمْلتِنا بأن يَجْعَلَ سَفرَنا بالطائرةِ ذهابًا وإيابًا من بغدادَ إلى جدةَ ، فلا صَدَقَ ولا أوْفى ، ولكن كظَّنا في حافلةٍ وزَحَفَ بنا إلى دمشقَ فاحتبسْنا فيها خمسةَ أيامٍ نرتقِبُ حَجْزَ طائرةٍ إلى جدةَ ، فلمّا أنْ هَبطنا عليها نفرْنا مِن فورِنا إلى المدينةِ المنورةِ فهَدَأنا فيها
أربعةَ أيامٍ ، ثمَّ رُحْنا إلى مكةَ بحافلةٍ لا بارِدةٍ ولا واسِعةٍ ، فوصلنا والتعَبُ يَمُضُّنا مَضًّا وأجسادُنا تنضَحُ بالعَرَقِ ، حتى إني أقسمْتُ باللهِ جَهْدَ يَمِيني : ما تكونُ لي عَودَةٌ لِعُمْرةٍ ولا لِشيءٍ أبَدَ الدَهْرِ ،،، فعَكفنا بمكةَ ثمانِيَ ليالٍ بفُندقٍ ناقِصِ الخدمةِ ، بل الماءُ قُطِعَ عنّا ساعةً فتذكرنا حالَ العراقِ ، فلمّا انقضتْ أيامُ الإقامةِ المَضْروبةُ لنا عُدْنا إلى مَطارِ جدةَ ، فانتهَينا إليه بالليلِ في الثانيةَ عشرةَ وعشرِ دقائقَ ، لِنقفلَ إلى دمشقَ
بالطائرةِ ، وقبل قفُولِنا وقعَ لنا ما لم نكن نحتسِبُ ، لقد رَفرَفتْ طائرتُنا في الواحدةِ إلا ثلثًا ونحنُ جُلوسٌ نتظِرُ أوانَ رُكوبنا فيها ، ذلك بأنَّ عَريفَ الحملةِ أخطأ في قراءةِ مَوعِدِ الإقلاعِ فظنَّ أنه في الرابعةِ وعشرينَ دقيقةً ، ولم يُعِدِ النظرَ إلى التذاكِرِ إلا بُعَيدَ أن تركتنا الطائرةُ ،،، ففزِعْنا - نحنُ المُعتمِرِينَ- وهاجَ هائجُنا وهَدَّدْنا العريفَ قائلين له : لنشْكُوَنَّكَ إلى المَسئُولين ها هُنا ، ولنُبْلِغَنَّ قنواتِ التلفزةِ والإذاعةِ والصُّحُفَ ، أو
لتَجْعَلَنَّ لنا مَخرَجًا مِمَّا رميتنا فيه ؛ فلم يُبالِ وقامَ يُخادِعُنا ساعاتٍ أربعًا أو خمْسًا حتى مَطلعِ الفجْرِ ، ثمَّ لمْلمَنا إلى الحافلةِ وغدا بنا إلى مكةَ ، فأسْكننا فندقًا غيرَ الذي أسكننا إيّاهُ مِن قبلُ ، وأمَرَنا بأنْ نكونَ قرِيبًا منه ، فمَتى أرادنا لا يَتعَذَّرْ عليه جَمْعُنا ، ولم نستطِعُ ذهابًا إلى الحَرَمِ إذ بيننا وبينه ألفا مترٍ ، مِنّا مَن نفِدَتْ أموالُهم ؛ ما لهم صادِرٌ ولا وارِدٌ فلاذُوا إلى خَيمةِ تفطِيرٍ لدَى جامعٍ تجاهَ فندقِنا ،، وهكذا حالُنا في
أيّامٍ أربعةٍ حتى جاءَ خبرُ الحَجْزِ إلى دمشقَ ...
سألتُ قريبي هَذاكَ : هل لكَ في رِحْلةِ عُمْرَةٍ بعدَ الذي دَهاكَ وعَناكَ ؟!
فتبسَّمَ وقال : إي ،، وإني لعازِمٌ على الحَجِّ أيضًا..