قُلْ: آمَنْتُ باللهِ ، ثمَّ استقِمْ
رضوان سلمان حمدان
الحديث عن سُفيانَ بن عبدِ اللهِ - رضي الله عنه - ، قالَ : قُلتُ : يا رَسولَ اللهِ ، قُلْ لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عَنْهُ أحداً غَيرَكَ ، قال: ) قُلْ : آمَنْتُ باللهِ ، ثمَّ استقِمْ ( رواه مسلم.
وفي الترمذي: حَدِّثني بأمرٍ أعتصمُ به ، قال : ( قل : ربي الله ، ثم استقم ) ، قلتُ : يا رسول اللهِ ، ما أخوفُ ما تخاف عليَّ ؟ فأخذ بلسان نفسه ، ثم قال : (هذا).
يتضمن هذا الحديث تلخيصاً جامعاً لأمر الإسلام كافياً حتّى لا يحتاجَ بعدَه لأمر غيره.
فقد طلب سفيان بن عبد الله من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُعلمه كلاماً جامعاً ، فقالَ لهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( قل : آمنتُ باللهِ ، ثُمَّ استقم ) ، وهذا منتزع من قوله - عز وجل - : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } ]فصلت: 30 [، وقوله - عز وجل - : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }] الأحقاف: 13- 14 [.
وخرَّج النَّسائي عن أنس: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأ: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } ، فقال : ( قد قالها الناسُ ، ثم كفروا ، فمن مات عليها فهو مِن أهل الاستقامة ) .
وقال أبو بكر الصديق في تفسير { ثُمَّ اسْتَقَامُوا } قال: لم يشركُوا بالله شيئاً.
ورُوي عن عمر بن الخطاب أنَّه قرأ هذه الآية على المنبر { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } فقال : لم يَروغوا رَوَغَانَ الثَّعلب.
وعن ابن عباس قال : استقاموا على أداءِ فرائضه.
وعن أبي العالية ، قال : ثمَّ أخلصوا له الدينَ والعملَ.
وعن قتادة قال : استقاموا على طاعة الله.
وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : اللهمَّ أنت ربنا فارزقنا الاستقامة.
ولعل من قال : إنَّ المرادَ الاستقامة على التوحيد إنَّما أرادَ التوحيدَ الكاملَ الذي يُحرِّمُ صاحبَه على النار ، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله ، فإنَّ الإله هو الذي يُطاعُ ، فلا يُعصى خشيةً وإجلالاً ومهابةً ومحبةً ورجاءً وتوكُّلاً ودعاءً ، والمعاصي كلُّها قادحة في هذا التوحيد ؛ لأنَّها إجابة لداعي الهوى وهو الشيطان ، قال الله - عز وجل - : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } ]الجاثية: 23 [.
قالَ الحسن وغيره: هوَ الذي لا يهوى شيئاً إلاَّ ركبه.
وقال الله - عز وجل - : { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ]هود: 112 [. فأمره أنْ يستقيمَ هوَ ومن تاب معه ، وأنْ لا يُجاوزوا ما أُمِروا به ، وهو الطغيانُ، وأخبر أنَّه بصيرٌ بأعمالهم ، مطَّلعٌ عليها ، وقال تعالى : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } ]الشورى: 15[
قال قتادة : أُمِرَ محمد - صلى الله عليه وسلم - أنْ يستقيمَ على أمر الله.
وقال الثوري: على القرآن.
وعن الحسن ، قال : لما نزلت هذه الآية شَمَّرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فما رؤي ضاحكا.
وقال - عز وجل - : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } ]فصلت: 6[ .
وقد أمرَ الله تعالى بإقامةِ الدِّين عموماً كما قال : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } ، وأمر بإقام الصلاة في غير موضعٍ من كتابه ، كما أمر بالاستقامة على التوحيد في تلك الآيتين.
والاستقامة : هي سلوكُ الصِّراط المستقيم ، وهو الدِّينُ القيِّم من غير تعريج عنه يَمنةً ولا يَسرةً ، ويشمل ذلك فعلَ الطَّاعات كلّها ، الظاهرة والباطنة ، وتركَ المنهيات كُلِّها كذلك ، فصارت هذه الوصيةُ جامعةً لخصال الدِّين كُلِّها .
وفي قوله - عز وجل - { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } إشارةٌ إلى أنَّه لابُدَّ من تقصيرٍ في الاستقامة المأمور بها ، فيُجبَرُ ذلك بالاستغفار المقتضي للتَّوبة والرُّجوع إلى الاستقامة ، فهو كقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: ( اتَّقِ الله حيثُما كُنت ، وأتبعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تَمحُها).
وقد أخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الناس لن يُطيقوا الاستقامة حق الاستقامة ، كما قال النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم – : (استَقيموا ولن تُحْصوا، واعلموا أنَّ خيرَ أعمالكُم الصَّلاةُ، ولا يُحافِظُ على الوضوء إلاَّ مؤمنٌ) ، وفي "الصحيحين"عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( سددوا وقاربوا ).
فالسَّدادُ : هو حقيقةُ الاستقامة ، وهو الإصابةُ في الأقوالِ والأعمال والمقاصد ، وقد أمرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليَّاً أنْ يسألَ الله - عز وجل - السَّداد والهدى. والمقاربة : أنْ يُصيبَ ما قَرُبَ مِنَ الغرض إذا لم يُصِبِ الغرضَ نفسَه، ولكن بشرط أنْ يكونَ مصمِّماً على قصد السَّداد وإصابة الغرض ، فتكون مقاربتُه عن غير عمدٍ ، ويدلُّ عليه قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أيُّها النَّاس ، إنَّكم لن تعملوا – أو لن تُطيقوا - كلَّ ما أمرتُكم ، ولكن سدِّدوا وأبشروا) والمعني : اقصِدُوا التَّسديدَ والإصابةَ والاستقامةَ، فإنَّهم لو سدَّدُوا في العمل كلِّه ، لكانوا قد فعلوا ما أُمِرُوا به كُلِّه.
فأصلُ الاستقامةِ استقامةُ القلب على التوحيد، كما فسر أبو بكر الصِّديق وغيرُه قولَه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} الأحقاف: 13 [[. بأنَّهم لم يلتفتوا إلى غيره ، فمتى استقام القلبُ على معرفةِ الله ، وعلى خشيته ، وإجلاله ، ومهابته ، ومحبته ، وإرادته ، ورجائه ، ودعائه ، والتوكُّلِ عليه ، والإعراض عما سواه ، استقامت الجوارحُ كلُّها على طاعته ، فإنَّ القلبَ هو ملكُ الأعضاء ، وهي جنودهُ ، فإذا استقامَ الملك ، استقامت جنودُه ورعاياه ، وكذلك فسَّر قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } ]الروم: 30 [، بإخلاص القصد لله وإرادته وحدَه لا شريكَ له .
وأعظم ما يُراعى استقامتُه بعدَ القلبِ مِنَ الجوارح اللسانُ ، فإنَّه ترجمانُ القلب والمعبِّرُ عنه ، ولهذا لما أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالاستقامة ، وصَّاه بعدَ ذلك بحفظ لسانه ، وعن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتَّى يستقيم قلبُه ، ولا يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لسانُه ) .
وعن أبي سعيد الخدري : ( إذا أصبح ابن آدم، فإنَّ الأعضاءَ كلها تكفر اللِّسان ، فتقول : اتق الله فينا ، فإنَّما نحنُ بك ، فإنِ استقمتَ استقمنا ، وإنِ اعوجَجْتَ اعوججنا ).