الضجر من خطب الجمعة مؤشر على رقة التدين

وإضاعة الصلاة واتباع الشهوات

محمد شركي

[email protected]

لم تكن ظاهرة الضجر من خطب الجمعة معروفة قبل عقود حيث كان المصلون يقصدون بيوت الله عز وجل يوم الجمعة في أول ساعة ، وقد اغتسلوا وتطيبوا وجلسوا للذكر وسماع القرآن الكريم بخشوع وسمت ، وكانوا يعودون إلى بيوتهم وقد ازدادوا إيمانا وخشوعا، علما بأن غالبيتهم كانت أمية أو شبه أمية لا تستطيع فهم ما يقوله الخطباء ،و كان الغالب على الخطب الفواصل السجعية التي لا يفك ألغازها إلا المختصون في علوم اللغة والبلاغة ، وكان أسلوب السجع يوحي للمصلين الأميين البسطاء بالخشوع والرهبة نظرا لغرابته عن أسماعهم ، بل كانوا يعتقدون أن السجع هو لغة التدين . ومع مرور الزمن انقرضت الخطب السجعية أو كادت إذ لم يبق من جيل الخطباء الذين يركبون السجع في خطبهم إلا القليل خصوصا في بعض القرى والبوادي النائية ، وظهر جيل جديد قطع في خطبه الصلة بالسجع ، وتحرر منه ،وتناقص عدد جمهور الأميين خصوصا في المدن والحواضر ، وأخذت خطب الجمعة منحى جديدا مضمونا وشكلا حيث انكب الخطباء على الواقع يعالجونه في خطبهم بأساليب يفهمها عموم الناس بما فيهم الأميون وأشباه الأميين بل من الخطباء من يزاوج بين العربية الفصحى والعامية ، و منهم من يستخدم حتى اللهجات أيضا تسهيلا للتبليغ .

ومقابل جمهور الأمس الذي كان يغتسل ويتطيب ويحضر إلى المسجد في الساعة الأولى للذكر وسماع القرآن ظهر جمهور جديد لا يحضر إلا في آخر لحظة حين يعلو الخطباء المنابر ، وليس في المساجد ساعتئذ إلا القليل من الحضور ، ويستمر وفود المصلين تباعا طيلة زمن الخطبة بل أكثر من ذلك لا يحضر الخطبة عدد لا يستهان به من الناس ،ويكتفون بحضور الصلاة ويكونون أول من ينصرف بلا بقية صالحات ولا دعاء . ومن هؤلاء من له موقف من خطب الجمعة يقاطعها عمدا ، ويكتفي بالصلاة ظانا أنه قد أدى عبادة الجمعة لأن الخطب في نظره لا تساير هواه . وانتشرت ظاهرة انتقاد الخطب والخطباء بشكل كبير ، والغالب على هذا الانتقاد هو ما يسمى التطويل ، ويقصد به طول الخطب .

ولا يتفق منتقدو طول الخطب على حجم هذا الطول زمنيا بل يخضع تحديده إلى أحوالهم الخاصة أو أزمنتهم النفسية التي تتحكم فيها عوامل الشغل والأكل والقيلولة... وهلم جرا. ولا يمكن التوفيق بين الأزمنة النفسية باعتماد زمن طبيعي موحد . وقد لا يلقي الكثير ممن يحضرون خطب الجمعة بالا لها بسبب انشغالهم بأزمنتهم النفسية ،ويقع تركيزهم على الساعات الجدارية المعلقة في المساجد أو على ساعاتهم اليدوية أو ساعات هواتفهم الخلوية ، ويصير شغلهم الشاغل هو عد الدقائق والثواني ، وتغيير وضعيات الجلوس إذ لا يرتاح أصحاب الزمن النفسي إلى جلسة بعينها ، ولا تخلو سحناتهم من التضجر بل يتبادلون فيما بينهم نظرات أو إشارات تعكس هذا التضجر بجلاء مما يعتبرونه طول الخطب أو إطالة الخطيب . ومع أنه لا يوجد زمن طبيعي محدد لخطب الجمعة يحسم فيه أهل العلم فقهيا ، فإن غالبية الخطباء تتركز خطبهم في نصف ساعة زمنية وقد يزيد بعضهم على ذلك ولا يبلغ الساعة أو يتجاوزها منهم إلا القليل . والزمن الطبيعي لخطب الجمعة عندما يترجم إلى زمن نفسي يصير ساعات طويلة ومضنية لا تطاق .

ولا يشفع للخطباء ما يبذلونه من جهد في خطبهم أمام أصحاب الزمن النفسي بل تذهب جهودهم سدى لأن أصحاب الزمن النفسي ينشغلون بأزمنتهم ولا يلقون بالا لما يقال في الخطب . ولقد كان التعجيل بإلقاء الخطب معروفا في المساجد التي يقصدها بعض المسؤولين حيث يؤمر الخطباء بتسريحهم في أقصر مدة ممكنة نظرا لانشغالهم بأعمالهم ووظائفهم التي يعتبرونها فوق الذكر والصلاة ، وكانت ولا زالت هذه الخطب موضوع انتقاد بل وموضوع تندر في أوساط الناس حيث توجد في الثقافة الشعبية عندنا عبارة تدل على هذا النوع من الصلاة وهي : " صلاة القواد الجمعة والأعياد " . ومع مرور الزمن صارت غالبية المصلين تميل إلى صلاة القواد التي لا تزيد عن عشر دقائق حتى صار المستعجلون لسبب من الأسباب الدنيوية ينصح بعضهم بعضا بارتياد مساجد بعينها لا لسماع الذكر بل لربح الوقت في دين فيه قاعدة "إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرىء ما نوى" . وقد يتحول الزمن الطبيعي إلى أزمنة نفسية عندما تكون بعض الخطب فارغة من الدلالة حيث لا يطيق جمهور المصلين سماع ما يشبه اللغو .

ومن الناس من يجد في وصف الخطب بالطول والخطباء بالتطويل ذريعة للنيل من خطب يضع أصحابها الأصابع على الجروح كما يقال . فالخطيب على سبيل المثال الذي يتناول في خطبته سلوكات لا تليق بالمجتمع المسلم كالتدخين أو سفور المرأة أو الرشوة أو العري على شواطىء البحر أو الاختلاط أو الرقص والمجون ... أو ما شابه ذلك مما يقع فيه بعض من يرتادون المساجد ويحضرون خطب الجمعة يكون عرضة للنقد الشديد ، وعلى رأس هذا النقد اتهماه بالتطويل ، ولو صدق المنتقدون مع أنفسهم لاتهمواه بالتطاول على سلوكاتهم الغريبة عن الإسلام وليس بالتطويل . ولقد نشأت ظاهرة ما يسمى لجان تسيير المساجد ، وهي لجان يغلب على المنخرطين فيها كثرة الفضول ومحاولة الوصاية على بيوت الله عز وجل ، ومعظمهم ممن أفنى عمره في الغفلة حتى إذا وهن منه العظم واشتعل الرأس شيبا ولفظته الخمارات ودور الفجور وجدوا في المساجد مأوى لهم ولكنهم يرتادونها أوصياء لا مجرد نزلاء يستدركون ما ضاع من أعمارهم في المعاصي وهم أهل حنين لها ، ويصيرون حكاما في المساجد كحكام لعبة كرة القدم عندهم البطاقات الصفراء والحمراء يخرجونها في وجوه الخطباء حين لا يساير الخطب أهواءهم . وقد يطرقون أبواب الجهات المسؤولة عن الشأن الديني من مجالس علمية ومندوبيات للوشاية بالخطباء . وأغلب ما يتهم به الخطباء تهمة التطويل ، وقد لا يكلف المسؤولون عن الشأن الديني أنفسهم تطبيق قاعدة التبين مع ورود أنباء الفسق عليهم ، من خلال حضور خطب من يتهمون بالتطويل للتأكد من صدق أو كذب ما يصلهم من أخبار أغلبها وشاية أو نكاية أو تصفية حساب .

وقد لا يجد المنتقدون سبيلا إلى الخطباء فيتظاهرون بالثناء على خطبهم ولكنهم يبخسونها بتهمة التطويل وكأن المطلوب من المصلين يوم الجمعة هو عبادة الوقت لا عبادة الذكر . ويتحول بعض منتقدي الخطب والخطباء إلى فقهاء وعلماء يستشهدون بنصوص الحديث ، وهي حق يردون به باطلا ، وذلك من قبيل الاستشهاد بالحديث النبوي الشريف الذي يأمر بتقصير الخطبة وتطويل الصلاة ، وهو حديث فيه نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم تكشف النقاب عما سيؤول إليه حال الأمة حين يرق دينها فيكثر كلامها ويقل عملها سواء تعلق الأمر بخطب الخطباء أم بأفعال من يحضرون الجمع . فالنبي صلى الله عليه وسلم تنبأ بخطب تطول ولا تفيد أو لا طائل من ورائها لأن القاعدة في دين الإسلام هي : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " فخير لمن لا يقول خيرا أن يصمت ، ولا خير في صمت من يقول الخير . ومعلوم أن من يضجر من طول خطب الجمعة يضجر بالضرورة من طول الصلاة إلا أن بعضهم يتظاهر بحب إطالة الصلاة نكاية في الخطب والخطباء ، ويستشهد بالحديث النبوي ليس اتباعا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بل اتباعا لهوى النفس . وينتقد بعضهم القراءة بالسور القصار في صلاة الجمعة وكأنه يوجد فرق بين التعبد بالسور القصار والطوال ، وكلها كلام الله عز وجل ، وقد ورد في الحديث الشريف فضلها سواء طالت أم قصرت . ولا يلتفت المتذرعون بتقصير الخطب وإطالة الصلاة على طريقة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وصحابته إلى البون الشاسع بين السلف الصالح والخلف الطالح ، ذلك أن الكلام القليل كان يؤدي دوره بالنسبة للسلف الصالح ، وكانوا عربا أقحاحا وأهل بلاغة وفصاحة وأهل ورع وتقوى تكفيهم الإشارة ، لهذا كانت تقصر خطبهم وتطول صلاتهم ، أما من خلف من بعدهم من الخلف الطالح الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وليست عربيتهم بعربية السلف الصالح ، وليس بينهم وبين البلاغة والفصاحة صلة ، ولا بينهم وبين الورع والتقوى علاقة ، ولا منطقهم " أرحنا بها يا بلال " بل منطقهم " أرحنا منها يا فلتان " فما أ بعدهم عن الإشارة وأحوجهم إلى طول بيان وتوضيح خصوصا وأنهم أصحاب جدل كبير . والغريب أن ينتقد المنتقدون الخطباء ويتهمونهم بالتطويل في الخطب والتقصير في الصلاة ، ولا يلتفتون إلى حال من يستمع إليهم ، ويصلي خلفهم وفق قاعدة " كما تكونوا يول عليكم " فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤم خير القرون ، ويخطب فيهم بما يناسب تدينهم وورعهم ، وتقواهم ، و لما رق تدين الناس قيض لهم الله خطباء يؤمونهم ويخطبون فيهم بما يناسب رقة تدينهم . ولقد كان السلف الصالح لا يحكم أهواءه في الخطب أو يطلب من الخطباء ما يسايرها ،فصار الخلف الطالح يطلب من الخطباء العزف على أوتار الأهواء ، وكأن الأمر يتعلق بما يطلبه المستمعون من الطرب والألحان ، فلا تمر جمعة دون أن يختلى بعضهم بالخطباء و يعبرون عن رغباتهم فيشرون عليهم بقضايا يرون أنها جديرة بأن تطرح فوق المنابر ، وما هي في حقيقة الأمر سوى قضايا خلفها مصالح شخصية أو تصفيات حسابات بسبب علاقات القرابة أو الجوار أو التجارة أو ما شابه ...

ويحاول أصحاب هذه المصالح المقنعة استغفال بعض الخطباء لقضم الأشواك بأفواههم ، وقد يعود ذلك على هؤلاء الخطباء بالويل والثبور وعواقب الأمور. ومن الفضوليين من تسول له نفسه لخبث يعتريها أن ينصب نفسه ممتحنا للخطيب يقوم خطبه فيستحسن منها ويقبل ويرد ، ويشير عليه بما يجب أن يقال وما لا يجب أن يقال ، ويأتي بدابة الأمر مستفسرا استفسار الجاهل المتعلم ثم لا يلبث أن يصير سائلا أسئلة الممتحن المختبر إذا ما سمع من الخطيب ما لا يرضي أهواءه أو يسايرها . وتكاد تنطبق على خطباء الجمعة في هذا الزمان حكاية جحا والحمار وابنه حيث تعرض للنقد راكبا ظهر حماره وراجلا وحاملا للحمار ، فكذلك حال الخطباء يتعرضون للنقد في كل الأحوال لأن الأمة رق دينها وأضاعت الصلاة واتبعت الشهوات ونسأل الله عز وجل أن يتداركها بلطفه ويبصرها بعيبها قبل أن تلقى غيا .