آخرة في دنيا
صباح الضامن
[email protected]
تسير بها السيارة حيث المركز
الطبي في بلدها , بطيئة هي تتهادى بين الأشجار الباسقة التي تسدل ستائرها الخضراء
على نوافذ الدنيا لتبدأ في الغروب , ومن بين بعض الفرجات تبدو مبتسمة بلونها الشفقي
لتوحي بسكينة خلاقة .
تنظر أمامها في هدوء لتعطي
لنفسها فسحات من تفكير ترتب فيها خطواتها نحو المركز الطبي حيث ستقوم بإجراء رنين
مغناطيسي للعمود الفقري الذي تشكو منه من زمن .
- زمن
الشباب ولى تقولها بهمس خافت لصديقتها التي تقود لها السيارة متجهة معها مصاحبة
بالروح والقلب والفعل .
- ولى
منذ زمن يا صاحبتي قالتها مبتسمة وهي تنظر للشمس المتوارية خلف شجرة السنديان
الضخمة ..
في المركز
لا احد غير القلة القليلة تخطو
فقد انتهى الدوام ولا يوجد إلا قسم الطواريء وبعض الموظفين الذين ينتظرون أمثالها
.
- لدي
صورة رنين مغناطيسي قالت للموظف بهدوء .
- هز
رأسه بآلية لا تخلو من ملل
- اذهبي
للطواريء لتركيب إبرة الصبغة الملونة فلا ممرضات هنا
في الطواريء الموظف يرتجف من
التعب بعد اثني عشر ساعة من العمل المتواصل تسقط الإبرة من يده وترن في أذنها وهي
تراقبها تتهادى على الأرض رافضة أن تنغرس بقسوة في جلدها الرقيق وكأنها تقول ليس
الآن وقت الألم . ليعود بأخرى معتذرا على تعبه .
و لا تريد مجاملته فقط تدعو له
وتخرج بعد ألم شديد في الوريد فقد اقتحمت أخيرا الإبرة في ظاهر كفها وسال الدم
الأحمر على بلاط المستشفى الأبيض ..
الممرضات والأطباء ينظرون هنا
وهناك بلا رغبة في التعليق وكأن الجميع قد أرهقه شيء ما ..
وتعجب أم علاء محدثة رفيقتها
- كأنهم
آلات !!
- ربما
من شدة التعب
- وربما
تعودوا رؤية كل شيء فما عاد يهزهم ..
- صدقت
.
وأمام باب غرفة الأشعة
المغناطيسية وقفت أم علاء تتذكر الجهاز فقد سبق لها أن صورت فيه ولكن وجهها كان
مدفونا في السرير
وليس كالآن
..
في الداخل بدأ الجهاز يزحف
بلونه الرمادي من فوقها يزحف ويزحف وكأنه يغطي مدى رؤيتها وتحتبس داخله
.
نفق أسطواني بين مدى بصرها وبين
سقفه نصف متر فقط
يا الله !! نظرت إليه , سمعت
صوته يسحب ويسحب بصوت لافت وكأنه يقول لها بم يوحي إليك يا هذه ؟
بم ؟
لا أحد في النفق غيرك
لا أحد معك
أصوات هائلة كأنها مطارق تحدثها
تقول لها :
- ماذا
فعلت ؟
ماذا لديك ؟
ما أنت فيه الآن ؟
من معك ...!! أمعك أحد
!
لا أحد , أنت وذاك النفق وكأنك
في نهاية النهاية حيث أنت وحدك وعملك ودنياك .
أنت في الآخرة يا أم علاء ولا
أحد معك . وابتدأ وجيب قلبها يعلو ورغم علو مطارق الجهاز إلا أن صوت خفقاتها علت
وعلت حتى باتت مهيمنة على كل أحاسيسها , وكاد إغماء يطيح باتزانها فاستعاذت بالله
من الوسواس الخناس وابتدأت تقرأ القرءان مما تحفظ وهدأت نفسها
.
ورأت سقف النفق الحديدي يعلو
يبتعد ونسمات غريبة تقترب مع ترنيمات تعارض صوت المطارق . أما خفقاتها فقد كانت
تسرب رؤيا لآخرة في دنيا النفق.
يا الله ! كأنها في قبر وكأن
نبضها يسحب وتجري روحها وراءه مستدعية إياه أن أقبل
تعال
أنقذني وأجب عني
أتراني نبضت بإخلاص
!!
تعال أقبل أترى خالج مشاعري نوع
من الخوف لمثل هذه لحظة وما أعددت لها حقا ما أعددت لها !!
كأني هنا أنتظر حسابي وما عدت
أسمع مطارق الجهاز ويكأنها نعال المصاحبين تغادرني وتتركني هنا وحيدة إلا من
:
قطرات دمعي مسكوبة بيوم ضاع
وظننت أن وراءه غد ..
وتتركني لهفاتهم إلا من سجدات
خفقاتي على ثرى الندم لترك واجب وسويعات قرب لخير
وتتركني ذهبيات أعمالي إلا من
بريقها الخادع في جبين الفتنة والغرور
آه يا نفسي ما أغرقني
!
ما أحياني
!
ما لسفني بأشرعة الندم مشرعة
أقفلي يا أنفاق الحديد على روحي
مقودة هي مسلوبة , خائفة راجفة من يوم كهذا .
انتظري يا آلة الرنين
المغناطيسي فما أنت إلا دنيا في آخرة أو آخرة في دنيا تعلمني كيف أستعد ليوم كهذا
وتصحو أم علاء على صوت الممرض
يوقظ همهماتها لتعود للحياة ..
انتهينا
..
- حقا
!! يبدو أني ابتدأت .
نقطة , سطر جديد , درس جديد في
نفق الرنين بصوت عال .