يا ذا العطا ... اسق العطاش تكرما
زهير سالم*
نؤمن أن كل شيء يجري، بأمر الله، بقدر. و نؤمن أن الأسباب، التي هي ستار القدرة الربانية، لا تفعل بنفسها. ونعيش دائما في ظل إرادة الحي القيوم تفعل فعلها في الوجود، فلا السكين تقطع، ولا النار تحرق، ولا الدواء يشفي، ولا الماء يمنحنا الري، ولا الغذاء يشعرنا بالشبع، ولا النوء يمطر، إلا بعلمه وأمره وإذنه (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ).
وحين يزهو أهل الحس بَطَراً بما أوتوا من علم الله وفضله وأسراره في خلقه فيردد أحدهم ما ردده قارونهم الأول (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)؛ فإننا نتعلق بأقدار الوجود مقترنة بمقدرها الأول، مقدرها الحق، الذي يُحكِم الأسباب، ويَحكمُ الأسباب ولا تحكمه الأسباب، فلا يفعل سبب إلا بإرادته و قدرته وقيومته..
إيماننا بالأقدار الربانية التي تنتظم الوجود من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة لا تلغي قوانين الفيزياء، ولا تتنكر لنواميس الكون التي قيل لنا فيها: ( سيروا فانظروا ) ولكننا تتجاوزها لنرى من فوقها المشيئة التي لا يحدها حد، والقدرة التي ليس وراءها قدرة، تفعل فعلها في هذا الوجود.
المعتمدون على السبب لا يرفعون رأسا إلى السماء إلا عندما يقول الطبيب: لا دواء. عندها يقول الإنسان الضعيف: يا رب. شأن المؤمن مع ربه شأن آخر المؤمن يظل المؤمن ينادي يا رب مع أسهل أمره وأصعبه ( ليسألْ أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع..)
المنهج الرباني الودود يوثق علاقة الإنسان في كل أمره بالله، يريده أن يستشعر الأنس والرحمة والحب، وأنه على أرض الشقاء هذه ليس وحيدا. تقسو الظروف، وتتقلب الأيام نُعمى وبؤسى ( والحوادث تفعل ) فما يتطرق إلى قلب المؤمن وهن، ولا يدخله شك، ولا يتسلل إليه ضعف؛ يقول يا رب فتؤِّب الجبال معه والطير، ويلين له الحديد..
للذين يعيشون في كنف الله قوانين وجودهم، وقوانين عيشهم الخاصة، التي تجعلهم يرون ما لا يراه المنقطعون، ويسمعون ما لا يسمعون، ويتذوقون ما لا يعرفون . يقول أحدهم إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق دابتي. الإحساس بأن الوجود التي تنتمي إليه قد تنكر لك لمجرد أنك خرجت على السنن أو انحرفت عن السبيل، هو حالة من الذوق الذي لا يشرح ولا يوضح ولا يمكن أكثر من الإشارة إليه. فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر.
نؤمن أن تصريف الرياح هو من فعل ربنا تبارك وتعالى، وأن تقلّ هذه الرياح سحابا ثقالا فتجري به إلى بلد ميت هو بعض كرمه، ولقد عودنا ربنا أن فعله إنما يجري بقدر وسبب، وأوحى إلينا من ظاهر الأسباب وباطنها ما أوحى، وهو القائل وما أوتيتم من العلم إلا قليلا..
أوحى إلينا على لسان نبيه نوح عليه السلام: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ..)
وقال مولانا: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا...)
ومما علمنا ربنا أن الظلم يمنع الرحمة، وأن فتنته لا تصيب الذين ظلموا خاصة. وأن على أهل العلم واجبا (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ ). واتقوا دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب.
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
نؤمن أن رحمة ربنا، تعالى جد ربنا، قريب من المحسنين. ليس رفضا لمعطيات العلم، ولا استهتارا بعالم الأسباب ولكن ركونا إلى الذي خلق فسوّى، وقدر فهدى، الذي خلق الوجود وقدر الأقدار، إقرار منا بذل العبودية في جوار عزة الربوبية سنظل ننادي يا رب..
ربنا الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله، هو الأقرب إلينا والأرحم بنا من طب الطبيب وتقرير الراصد الجوي..
نقلع عن الظلم، ونتوب إلى الله، ونستغفر من ذنوبنا وأوهامنا، وننادي:
يا ذا العطاء....يا ذا الوفاء... يا ذا الرضا... يا ذا السخا...
اسق العطاش تكرما
اللهم سقيا رحمة..
اللهم على الآكام والظراب وفي بطون الأودية ومنابت الشجر.
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية