المؤسّسة الدعوية
عبد العزيز كحيل
الإنسان هو العنصر الأساسي في أي إنجاز مهما كانت طبيعته ، ويتضاعف سعيه ويتجذّر ويستمّر في العطاء إذا بذله في إطار مؤسسة ، هذه الحقيقة تنطبق على العمل الدعوي انطباقها على الاقتصاد والإعلام والحرب وغيرها ، فالمجهود الفردي - على ضرورته - قد يخدم جانبا معيّنا في وقت معيّن لكنّه لا يقوى على إقامة حجّة الله تعالى على الناس ولا أداء مهمّة الشهود الحضاري ، لأنّ ذلك يقتضي حضورا حركيا فعّالا ومتواصلا في كلّ مجالات النشاط الإنساني من أجل تقديم البديل الإسلامي بالصورة الصحيحة المتكاملة ، وهذا ما لا يمكن أن يتحمّل أعباءه إلا المؤسسة أي التنظيم المحكم البنية الذي يصطفي أحسن العناصر ويجمع مختلف الطاقات المتخصّصة ويوظّفها في العمل الدعوي البصير بصورة تكفل التواصل والنماء ، ولعلّ هذا بعض ما يشير إليه قوله تعالى " إنّ الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " – سورة آل عمران 33، فآدم ونوح عليهما السلام أدّيا مهمّتهما الجليلة على أكمل وجه في زمن يناسبه المجهود الفردي ، أمّا آل إبراهيم وآل عمران فهما بمثابة المؤسّستين العظيمتين ، وقد أنجبتا كوكبة من الأنبياء والدعاة والمصلحين ، ولم ينقطع عملهما حتى بعثة آخر المرسلين ، فإبراهيم عليه السلام بدأ عملا توارثته ذريّته أحقابا متلاحقة يضيف فيها اللاحق للسابق " ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إنّ الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون " – سورة البقرة 132، وقد تعهّد أبناء يعقوب لأبيهم بالاستمرار في العمل الدعوي على هدي المؤسسة الإبراهيمية المعطاءة " قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق " – سورة البقرة 133، فهذه المؤسسة العظيمة شغلت الساحة الدعوية في الزمان والمكان فحفظت التوحيد وجدّدت الدين وأحدثت التغيير الاجتماعي الصالح ، حتّى اكتمل البناء وبلغ تمامه على يد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام - الذي هو نفسه واحد من أبناء هذه المؤسسة المباركة من فرع إسماعيل عليه السلام -.
أمّا آل عمران فيشكّلون مؤسسة أخرى تفرّعت عن الأولى ، ورأسها هو والد مريم البتول ، وقد أبدعت هي الأخرى في نصرة الدين ، وأنجبت زكريا ويحيى وعيسى - عليهم السلام - الذين رفعوا لواء التوحيد وجاهدوا في الله حقّ جهاده وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر .
وهكذا يؤصّل القرآن الكريم للمؤسسة ، تلك الفكرة الراقية التي مازالت لم تنل ما تستحقّه من العناية من أكثر المسلمين على مستوى التنظير فضلا عن التطبيق ، ولعلّ بعضهم يتوجّس من تحوّلها إلى جهاز إداري عقيم يقتل المبادرات ويعطّل الطاقات ، كما هو حال كثير من المؤسّسات الرسمية والأهلية في البلاد العربية ، وهذا الاحتمال وارد جزئيا ، ويمكن تفاديه بالانطلاق من مبدأ العبادة لله تعالى وقصد إرضائه مع مداومة المراجعة لتجنّب الانحراف وتثبيت المؤسسة الإيجابية المبدعة التي تعتبر عائلة إبراهيم وعائلة عمران نموذجا لها ، وغنيّ عن البيان أنّ المشكلات والمهامّ التي يواجهها الإسلام في هذا العصر أكبر من حجم الجهود المتناثرة والأعمال المتقطّعة مهما توفّر الإخلاص في الأفراد ومهما ضحّوا ، كما أنّه يتعيّن لفت النظر إلى أنّ شكل المؤسسة لا يهمّ بقدر ما يهمّ جوهرها ، فقد تكون جماعة أو حزبا أو جمعية أو نقابة أو اتحادا أو مجموعة إعلامية أو مركز أبحاث الخ ... بحسب الظروف ، وإنّما يقاس نجاحها بمدى امتدادها في الزمان وتجذّرها في العمق وعطائها المتواصل في الميدان دون أن تنقطع عن الأمّة وانشغالاتها المعيشية والروحية ، فالفكر المؤسّسي الإسلامي ليس نخبويا منغلقا بل هو استيعاب للجماهير وحسن توظيف لطاقاتها المادية والعلمية والعاطفية في الحقل الدعوي الذي يشمل في آن واحد عالم الوجدان والمجال الحياتي والصراع الحضاري ، ونكون قد وضعنا أقدامنا على عتبة النهضة والإحياء عندما ننتقل إلى مرحلة إفراغ الجهد الفردي في الجهد الجماعي وفق نسق مؤسّسي يجمع بين أصالة المنهج وإمدادات التجارب البشرية الثرية ، وكمثال على ذلك نذكر الاجتهاد بمعناه الأصولي الذي لن يكون في مستوى الإسلام والعصر إلاّ إذا أصبح عملا مؤسّسيا يجمع التخصّصات الشرعية والعلمية ،وهو ما يسمى الاجتهاد الجماعي،وقد أصبحت تضطلع به المجامع الفقهية المختلفة.
إن العمل المؤسّسي غدا من أبرز صفات الحضارة الغربية لا يستثنى منه ميدان ، وهو ما كلّل المشاريع هناك بالنجاح وجعلها تختصر الزمن وتقتصد الجهد والمال من جهة ، وتحقّق أحسن النتائج بفضل تكدّس الاختصاصات وتجمّع المواهب والمهارات من جهة ثانية ، والجميع ينتظمهم نمط عمل علمي صارم ومرن في نفس الوقت يستخرج أحسن ما عند العاملين ويتيح لهم فرص مزيد من الإبداع والعطاء في إطار إنتاج مادي أو معنوي جماعي لا يلغي إسهام الفرد بل يثمّنه إلى أبعد حد ويدفعه إلى الأعلى والأعمق ، يحدث هذا في مصانع السيارات ومراكز الدراسات والبحوث سواء بسواء ، ونحن المسلمين أولى الناس بإحياء عمل المؤسسة لأنّه مؤصّل في مرجعيتنا الدينية ، ولأنّنا في أمس الحاجة إلى الخروج من عهد العمل الفردي المنعزل إلى عهد تجميع الجهود المتنوّعة من أجل النهضة بكل أبعادها.
ويقتضي العمل المؤسسي توفّر جملة من الأخلاق في الأفراد هي بمثابة واجبات العمل الجمعي كالتواضع لبعضهم والتنازل عن بعض الخلائق الذاتية والقبول ببروز البصمة الجماعية أكثر من الفردية ، وهي أخلاق تحتاج إلى الغرس التربوي المستند إلى المرجعية الدينية المحفّزة وإلى الحسّ المدني الضروري لمن يحبّ الخير لدينه و بلده وأمّته و البشرية كلّها ، أمّا الذاتية الطاغية المنفلتة من الضوابط الأخلاقية والنظامية فهي أكبر عائق أمام عمل المؤسسة ، لذلك جاءت نصوص الوحي محمّلة بوصايا الانضباط :
-" إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفّا كأنهم بنيان مرصوص "- سورة الصفّ 4.
-" واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا " – سورة آل عمران 103.
-" إنّما يأكل الذئب من الغنم الشاردة " حديث رواه أبو داود والنسائي .
هذه وغيرها نصوص تؤصّل للعمل الجمعي وتحذّر ممّا يعطّله أو يفسده.
وقد استطاع الغرب أن يتجاوز معوّقات المؤسسة بابتكار نظم وآليات نفسية واجتماعية و مادية تتيح للذاتية أن تبرز في إطار المجهود المشترك ، وتمنع المؤسّسة من تحويل العاملين بها من أصحاب النبوغ والإبداع إلى نكرات ومجرّد آلات ليس لها اسم ولا قسمات ولا تميّز ، وهذا ما يحرض عليه الإسلام ، فقد ذكر القرآن الكريم في آية واحدة الفرد ( آدم ونوح ) والمؤسسة ( آل إبراهيم وآل عمران )، كما خصّ أفراد هاتين المؤسّستين بتفاصيل ضافية عن عطائهم الصالح في عشرات الآيات الكريمة.
و أوّل مؤسّسة في أيّ مجتمع هي الأسرة ، لذلك كانت هي التي ذكرها القرآن الكريم في آية سورة آل عمران وأشاد بها ، لأنها محضن تنشئة الإنسان ومنطلق تكوين المجتمع ، تجمع بين أحضانها الأفكار والمشاعر المتنوّعة والسلوك التعاوني ، وفيها تدور رحى الحوار وتنبسط الشورى ويتدرّب الناس على التعايش الأخوي بتقبّل اختلافاتهم الفكرية والذوقية ، ووضع آليات لتسيير التنوّع وجعله تكاملا ودّيا يعود على الجميع بالثراء لا الجدب وبالخير لا الشرّ ، ويدفعهم إلى العطاء الجماعي لا إلى التدابر أو التقوقع الفردي ، ولهذا عني الإسلام بتنظيم شؤون الأسرة وشدّد على المودة والرحمة والبرّ بين مكوّناته ونهى أشدّ النهي عن التقاطع والجفاء والعقوق لتنقية أجوائها من كلّ الشوائب التي تعيق تماسكها باعتبارها المدخل الرئيسي واللبنة القوية للمجتمع الإسلامي ، وحدّد المسؤوليات وأمر بتحمّل كل طرف ما عليه منها كأنّه يؤدي عبادة حقيقية ،وذلك حتى يؤول أداء الحقوق والقيام بالواجبات إلى حالة صحية تشعّ بالخير وتنبض بالحياة وتمتدّ بركاتها إلى القلوب والأذهان ، وتتعدّى المستوى الصغير لتنعكس إيجابا على المجتمع كلّه.
والغريب أن الحضارة الغالبة اليوم قد أبدعت في التنظير للمؤسّسة ولإقامتها وتجديدها وحراستها وتقويتها من كل جانب ، لكنّها تنكّرت للمؤسسة الأولى ، فعملت وتعمل على هدم الأسرة من حيث المفهوم والروابط معا ، فلم تعد الأسرة الغربية مكوّنة من رجل وامرأة – ابتداء - كما هي الحال منذ بدء الخليقة ، بل أصبحت تتألّف - بحكم الفلسفة والقانون - من "شخصين " ، أي ولو كانا من جنس واحد ، كما دعت إلى ذلك توصيات مؤتمر القاهرة ومؤتمر بكين المشؤومين ، وكأن فلاسفة الغرب ومفكريه وساسته عموا عن حقيقة بسيطة هي أن الأسرة المثلية تعني نهاية الجنس البشري وبالتالي نهاية المؤسسات العملاقة التي قامت عليها الحضارة الغربية وتفخر بها وتزهو،وما ذلك إلاّ لانقطاعها عن الدين وخوضها لجج الإلحاد والعبّ من متع الدنيا بلا ضوابط " وهم عن الآخرة هم غافلون " – سورة الروم 7 .
فكيف بالحضارة التي تعمل على إلغاء الأسرة أن ترقى بمؤسّساتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها إلى مستوى إسعاد الإنسانية ؟ هنا تبرز ضرورة تفعيل البديل الإسلامي ومؤسّساته المنطلقة من الفطرة لا المتمرّدة عليها لنشيط الدعوة إلى الله محلّيا بالتذكير والأمر والنهي، وعالميّا بالتعريف بالإسلام وعرض محاسنه وتحبيبه للناس والجهاد بكتابه جهادا كبيرا أي بالحجّة القوية والبيّنة الواضحة.