تأملات تربوية في سورة (ص) 4
تأملات تربوية في سورة (ص) 4
د.عثمان قدري مكانسي
المقال الرابع
1- لا بد من الثواب والعقاب لأسباب منطقية ، منها :
أ- أن يأخذ العدل مجراه ، فيعاقب المقصر والمهمل ، ويثاب المجد والملتزم .
ب- أن لا يتساوى المتضادان في المعاملة فيُصاب الإيجابي بالإحباط ، ويزداد السلبي تقاعساً.
ت- أن يتأثر المحسن بالثواب فيزداد في الإحسان ، ويرتدع المسيء عن إساءاته.
ولهذاجاءت القاعدة الإلهية " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، كالمفسدين في الأرض ، أم نجعل المتقين كالفجار " توضح وجوب الثواب لمن أحسن ، والعقاب لمن أساء .
2- خلق الله تعالى الإنسان ذا عقل وفؤاد ليتحمل المسؤولية المناطة به " إنا هديناه السبيل ، إما شاكراً وإما كفوراً " ولم يُترك الإنسانُ ليصل بنفسه إلى الحق – فهو ضعيف – فأرسل الله الرسل وأنزل معهم الكتب الهادية ليكون الطريق إلى الله تعالى بيّناً لا لبس فيه . وهنا يأتي دور التفكر والتدبّر واتخاذ القرار ، فلم يعد عذر لمعتذر ، ولا حجة لمقصر : " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته ، وليتذكر أولو الألباب " فلَئن حوسب الإنسان - إذا استبان الطريق ، ووَضُح السبيل - بعد هذا فلا يلومن إلا نفسه " من عمل صالحاً فلنفسه ، ومن أساء فعليها " .
3- لو دخل أحدنا إلى بناء شامخ كبير ، فيه نظام دقيق يدل على حكمة وحنكة وحسن تقدير ، وفيه ترتيب رائع لكل ما يحتاجه الداخل من أدق الأمور وأصغرها إلى أعظمها وأكبرها فلا شك أنه لن يتساءل عن سبب هذا ، فالبداهة تعرف أن من أنشأ هذا المكان وصرف عليه المال الكثير ، واعتنى بمداخله ومخارجه ، وحاول تأمين رغبات الناس يسعى من وراء ذلك إلى كسب ثقة الزبائن وتحقيق الربح الوفير . ولله المثل الأعلى حين نعرف أنه سبحانه خلق السماوات والأرض فأحسن كل شيء خلَقه ، وخلق الإنسان في أحسن تقويم وهيأ له كل وسائل الحياة ، ثم بين له سبب خلقه والحكمة من خلقه " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " وهداه السبيل ، ثم ترك له الخيار في الإيمان والكفر ، ومن كان له عقل ولب تحمّل مسؤولية تصرفه، وخاض الامتحان لينجح أو يرسب . لكنّ رحمة الله في امتحانه للبشر أنه وضع الأجوبة إزاء أسئلتها – على خلاف اختبارات الدنيا – فما على الإنسان إلا أن يلتزم الأجوبة المقررة الواضحة ، فإن لم يفعل فقد ظلم نفسه وكان رسوبه نهائياً وجزاؤه عسيراً " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ، ذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار "
4- ألم يقل الله تعالى محذراً من الشيطان وأحابيله " إن الشيطان لكم عدو ، فاتخذوه عدوّاً ، إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير؟ " فما على العاقل إلا أن يحذر هذا العدو الأزلي الذي عصى الله تعالى ، وآلى على نفسه أن يُغوي البشرية كلها ليكونوا معه في النار، فأقسم بالله ليسلكن كل سهل وصعب ليفسد الناس ، ولن ينجو من حبائله سوى اللائذ بالله المتمسك بشرعه القويم . وتعال معي أخي الكريم نقرأ هذا الحوار بين رب العالمين الذي خلق الإنسان فأكرمه حين أمر الملائكة ومن كان معهم بالسجود لآدم عليه السلام ولذريته من بعده ، واستكبر إبليس أن يسجد فكان ملعوناً .. إنه حوار يدل على مكانة الإنسان المسلم في ميزان الله "
إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين
فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
فسجد الملائكةُ كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين
قال : يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيديّ ؟ أستكبرتً أم كنت من العالين ؟
قال : أنا خير منه خلقتني من نار ، وخلقته من طين .
قال: فاخرج منها ، فإنك رجيم ، وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين
قال : ربّ ؛ فأنظرني إلى يوم يُبعثون
قال : فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم
قال : فبعزتك ؛ لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلَصين "
قال : فالحقُّ ، والحقَّ أقول : لأملأنّ جهنّم منك وممن تبعك منهم جمعين "
فمن أسلم قياده للشيطان أدخله النار معه . إن العاقل من اتعظ، وعرف عدوه فنأى عنه ، ولن ينفعه الندم حين يقع في مصيدة الشيطان ويموت على ذلك .. إن الشيطان نفسه سيخبره – في جهنم حين يُلقى معه – أنه كان يكذب عليه ليكون من الهالكين أصحاب السعير " وقال الشيطان لما قُضي الأمر : إن الله وعدكم وعد الحق ، ووعدتكم ، فأخلفتُكم .
وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم ، فاستجبتم لي ،
فلا تلوموني ، ولوموا أنفسكم ، ما أنا بمصرخكم ، وما انتم بمصرخيّ ،
إني كفرت بما أشركتموني من قبل ، إن الظالمين لهم عذاب أليم ." .
5 - التوسط في الأمور ، وعدم التكلف سمة المسلم ، هذا حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: ( لِلمُتَكَلِّفِ ثلاث علامات : 1- يُنَازع مَنْ فَوقَهُ ، 2- وَيَتعَاطَى مَا لا يَنَال 3- وَيَقول مَا لا يَعْلَم ) . وَرَوَى الدَّارَقُطنِيّ من حديث نافع عَن ابن عمر قَالَ : خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْض أَسْفَاره , فَسَارَ ليلاً فمروا عَلَى رَجل جَالِس عِنْد مَقرَاةٍ لَهُ , فَقَالَ لَهُ عُمَر : يَا صَاحِب الْمَقرَاة أَوَلغَتِ السِّبَاعُ الليلة فِي مَقراتك ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم : ( يَا صَاحِبَ الْمَقرَاةِ لا تخبره ، هذا متكلف ، لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطونهَا ، وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ ) . وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ يَحْيَى بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن حَاطِب : أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حَتَّى وَرَدُوا حَوْضًا , فَقَالَ عَمْرو بْن الْعَاص : يَا صَاحِب الْحَوض هَلْ ترِد حَوْضَك السبَاعُ ؟ فَقَالَ عُمَر : يَا صَاحِب الْحَوْض لا تخبرنا فإنا نَرِدُ عَلَى السبَاع وَتَرِد عَلَيْنَا ، فكان عمر تلميذاً للرسول صلى الله عليه وسلم نجيباً .( المقراة : حوض فيه ماء) .
وعلى هذا تأتي القاعد البسيطة المريحة " .... وما أنا من المتكلفين " . والقاعدة القرآنية في عدم التكلف مشهورة . يقول الله تعالى " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها .."
6 الإخاء في الله وحده الذي يدوم . وما عداه زائل . بل ينتقل عداوة ًشديدة في الدنيا قبل الآخرة . ألم يقل الله تعالى " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين "؟ فتعال معي إلى هذه المحاورة بين من كانوا يداً واحدة في الدنيا تقتل وتبطش ، فلما تداركوا في النار كانت الخصومة بينهم على أشدها ، لننظرْ إليهم في النار وهم يتخاصمون وتعلو أصواتهم :
" هذا فوج مقتحم معكم لا مرحباً بهم ، إنهم صالو النار " فيسمع هذا القول من جاء ، فيتحفز للجواب القوي المناهض يردون عليهم موبخينهم ، فالأولون سبب دخول مَن بعدهم النار " قالوا : بل أنتم لا مرحباً بكم ، أنتم قدّمتموه لنا ، فبئس القرار " ويشتد خصامهم ، فلا يبقى لهم إلا أن يدعوَ بعضهم على بعض " قالوا ربنا ، من قدّم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار " أما أهل الجنة من إخوان الإيمان والتقوى فهم " على سرر موضونة ، متكئين عليها متقابلين ، يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين ، لا يُصَدّعون عنها ولا يُنزَفون ... " جعلنا الله من أهل الجنة الفردوسِ الأعلى .
7 - وأخيراً نجد في هذه السورة المباركة تكراراً لاسم الإشارة " هذا " مع اختلاف القصد والمعنى . وهذا التكرار نوع من جذب الانتباه وتثبيت المعنى في الذهن والقلب ليتمثل القارئ الأفكار ، ويعرف أي صنف ينبغي أن يكونه :
" هذا ذكر . وإن للمتقين لحسن مآب " هذا الذي قصصناه عليك يا رسول الله ...
" هذا ما توعدون ليوم الحساب " هذا جزاؤكم الذي وُعدتم به في الدنيا تلقونه الآن .
" إن هذا لرزقنا ما له من نفاد " هذا النعيم عطاؤنا لأهل الجنة ، لا ينفد .
" هذا وإن للطاغين لشرَّ مآب " هذا بمعنى أما بعد ، فقد انتهى حديثنا بها عن أهل الجنة .
" هذا فلْيذوقوه ، حميم وغسّاق " هذا هو العذاب ، فلْيذوقوه.
" هذا فوج مقتحم معكم لا مرحباً بهم " هذا جمع كثيف أُدخل النار لا مرحباً به .
وعودة إلى كتابي ( من أساليب التربية في القرآن الكريم ) يوضح للدارس اثني عشر هدفاً للتكرار بصيغ مختلفة .
نسأل الله تعالى أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يتقبله منا ، إنه سبحانه خير مسؤول .
يا ربنا
هـيئ لنا من بالفضل منك إن بدا زَلٌّ ، فنحن الضعفا بـرّ رحـيـم غافر وبِـرّك الفائض في | أمرناسـعـادة في الأفق من تقصيرنا وأنـت يـا سـيـدنا رضـاك مفتاح الهنا هـذي الـحياة عَمنا | وخُـصّـنا
الفقير إلى عفو ربه عثمان